ندى حطيط – القدس العربي
لسنوات طويلة سيطرت قصص المافيا الإيطاليّة على شاشات السينما والتلفزيون الغربيّة من «العرّاب – The Godfather» إلى مسلسل «سبرانوز (Sopranos)» وما بينهما.
وبالفعل فإن عتاة المافيا الإيطاليّة في النصف الأول من القرن العشرين لم يكتفوا بالسيطرة شبه التامة على اقتصاد جنوبي إيطاليا، بل هم دخلوا في لعبة السياسة وتحالفوا مع اليمين الإيطالي ضد اليسار وأصبحوا بمثابة مخلب قط للحلفاء بعد انقضاء الحرب العالميّة الثانية، بينما كان أبناء عمومتهم المهاجرون إلى العالم الجديد يتحكمون بكل تجارة ممنوعة ويسيطرون على أحياء كاملة في حواضر أمريكا الكبرى.
لكن نجم المافيا الإيطاليّة ما لبث أن خبا لمصلحة صعود عصابات الروس والأوكرانيين والنيجيريين والكولومبيين وغيرهم، وهي مجموعات أكثر عنفاً ومتحللة من الالتزام بأية قواعد سلوكيّة تحكم العلاقات بين رفاق الكار الواحد – كما كان الحال عند الطليان – في الوقت ذاته، بدا أن الأعمال الدراميّة بقيت عالقة في المرحلة (الرومانسية) الإيطاليّة تلك – وحتى محاولات النجمين الأشهر في دراما الجريمة دي نيرو وآل باتشينو اللاحقة للخروج من قالب شخصيّة المافياوي الفاسد كانت محدودة النجاح، وعجزت الأعمال الحديثة عن تقديم تصور مقنع لتطور الجريمة المعاصرة سوى التمثيلات العنصريّة الباهتة والمؤدلجة التي تطرحها هوليوود عن المجرمين الروس الأغبياء والمنحرفين، والذين يخسرون معركتهم دائماً مع الأمريكي الطيّب. وحتى هذه الأدوار الثانوية لعبها دائماً ممثلون من غير الروس فبدت لكناتهم مصطنعة وثقافتهم مختلقة حتى بالنسبة للجمهور العادي.
وجبة جديدة من طبق الجريمة بثوب معولم
«ماك – مافيا» المسلسل التلفزيوني البريطاني الجديد (ثماني حلقات عرضت أولها على القناة الأولى في «بي بي سي» في ليلة رأس السنة بدا وكأنّه محاولة حثيثة لتحدي كل ذلك وفتح صفحة جديدة تماما في دراما الجريمة.
المسلسل المستوحى بتصرّف من أجواء كتاب استقصائي ممتاز بالاسم ذاته للصحافية ميشا جيلينّي يصف أوضاع الجريمة المنظمة والفساد المؤسسس في إطار العولمة والقرية العالميّة وينقلنا بسرعة تحبس الأنفاس بين تجار تبييض الأموال في دبي إلى مجرمي الفضاء السيبيري في الهند، مروراً بالسوق السوداء في زغرب، لوردات المخدرات في كولومبيا، والمهربين البدو في صحراء النقب في الأراضي العربيّة المحتلّة مع بقاء (السيتي) في لندن – وكما دائماً – قاعدة التشبيك لكل هذه التجارات عبر العالم.
تجاريّاً يبدو هذا المسلسل بنصّه وأداء ممثليه (يلعب الشخصيّة الرئيسة فيه الممثل البريطاني جيمس نورتون) وتقنيات تصويره وتعدد مواقعه مرشحاً قويّاً بالفعل ليكون فاتحة عهد جديد في دراما الجريمة، وإشارة واضحة إلى عزم «بي بي سي» تحديداً على لعب دور قيادي في صياغة مستقبل الدراما عموماً لمواجهة المنتجين التجاريين الأمريكيين كـ»نيتفليكس» و«هولو» و»أمازون فيديو» وغيرها، بل واستثمرت في استدعاء ممثلين روس معروفين للعب الأدوار المتعلقة بموسكو وأثرياء المافيا الروسيّة.
وتبدو ردود أفعال الجمهور والنقاد على المسلسل إلى الآن بعد بث نصف الحلقات إيجابيّة ومرحبّة، الأمر الذي حدا بـ»بي بي سي» للإعلان عن بيع حقوق عرض «ماك – مافيا» بالفعل إلى «أمازون فيديو» ليتوفر عبرها للجمهور وبلغات عدة في حوالي 200 دولة عبر العالم حال انتهاء عرضه على القناة الأولى. «إنّه عمل مكتمل تماماً لجمهور هذا النّوع من الدراما التلفزيونيّة» – تقول جين برودي، إحدى الناقدات البريطانيات المعروفات.
تلاشي الحدود بين الجريمة والتجارة
يحكي الفيلم قصة أليكس غودمان، وهو شاب يهودي ينحدر من أسرة مافياوية روسيّة خسرت معركة وجودها في موسكو وانتقلت إلى لندن، حيث يكتسب ثقافة بريطانيّة باردة ويقرر الخروج من عباءة أنشطة أسرته المرتبطة عضوياً بالجريمة ليلتحق بالياقات البيضاء وسوق التجارة العلنيّة بالأدوات الماليّة والاستثمارات في لندن.
لكن أليكس ما يلبث أن يجرجر مجدداً إلى فضاء الجريمة من بوابة تعرض شركته لخطر الإفلاس بسبب إشاعات أطلقت عنه حول شبهات تعامل مع مافيات تبييض الأموال، ومن ثم مقتل عمّه المحبوب بوريس على يد مافيا روسيّة منافسة لها توجد داخل لندن، وهنا يلجأ اليكس في ترتيب انتقامه إلى تاجر مخدرات إسرائيلي عالمي لتتصاعد الأحداث في إطار نشاط معولم محموم: سيارات فارهة تسابق الريح في شوارع ضخمة، مشاهد ثراء فاحش، وعنف شديد ومطاردات عبر المدن.
ولإضافة لمسة نسائيّة هناك ربييكا هاربر (تلعب دورها الممثلة البريطانيّة الحسناء جولييت رايلانس) خطيبة أليكس، التي نشاهدها تنظّر لجمهور باذخ من المتأنقين والمتأنقات في حفل خيري لجمع التبرعات من تايكونات كبار: الرأسمالية ليست سيئة إذا كانت رأسماليّة مسؤولة، ليصفق الجميع جذلين ويخرجوا دفاتر شيكاتهم.
متاعب المشاهدين: ضرورات لا بد منها
مع ثراء الصورة والأحداث والموسيقى، والنص المتين، والممثلين الجميلين في «ماك – مافيا»، وكذلك الثقل الكبير الذي ألقته «بي بي سي» بالترويج للمسلسل، فإن العمل ككل مرهق للمشاهد المعاصر على مستويات عدة. أولها أنه ورغم مطاردته لشبكات الإجرام والفساد المنظم على نطاق معولم، فقد وقع في فخ الصور التنميطيّة ذاتها التي تأتينا من الأعمال الأمريكيّة الغارقة بوحول الحرب الباردة، فالمجرمون محور المسلسل هم روس، والبطل يأمل بالتحرر من تراث عائلته الإجرامي كي يعيش حياة بريطانيّة متحضرة، والجريمة عالم ذكوري تجمله الأدوار النسائيّة لزوم الديكور، وهكذا، في الوقت الذي يقرأ جمهور اليوم عن فضائح النخب المهيمنة في مختلف دول العالم، كما في «أوراق بنما» وغيرها، والتي ترينا وجوهاً جدّ مختلفة للمجرمين، ومبيضي الأموال والمتهربين من الضرائب وعلى رأسهم ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية نفسها، التي ورد اسمها كأحد المتهربين من الضرائب بنقل بعض ملايينها الكثيرة للاستثمار في شبكة الجنات الضريبية – التي اخترعها البريطانيون ويرعونها داخل جزر ومدن كوزمبوليتانية متعددة عبر العالم.
المستوى الثاني هو لا شك في تسارع الأحداث، وتعددها وتقاطعها بين العواصم مما قد يتسبب للمشاهد بالتشويش. لكن الحقيقة أن مسلسلاً يتصدى لتصوير الجريمة المعولمة أو العولمة المجرمة – إذ يربط البعض المستويات المتقدمة من الجريمة بتكوين العولمة بحد ذاتها – لا بدّ ويعكس مستوى تعقيدات الشبكات والعلاقات والجهات المنخرطة فيها، وهو مستوى لا تفيد معه أيّة محاولات للتبسيط دون إخلال بالواقع.
أما المستوى الثالث فهو دون شك تلك الحيرة التي تصيب المشاهد عند ذهابه للبحث عن التقسيمات التقليديّة للأدوار في العمل الدرامي بين الأخيار والأشرار أو بين النور والظلمة. فلا شخصيّة واحدة تبدو قادرة على استقطابنا للتعامل معها بوصفها نموذج البطل الإيجابي في مواجهة حمولة طائرة كاملة من المتورطين بإدارة شبكات الظلام. أليكس – البطل الرئيسي – لا يقاوم طويلا قبل الانخرط باللعبة السوداء، وخطيبته ربييكا مجرد وجه جميل ترتديه الرأسماليّة المتوحشة. حتى شخصية بوريس العم اللطيف الذي يتم اغتياله بقسوة يتبين لاحقاً أنّه وراء الإشاعات التي تسببت بتقريب ابن أخيه أليكس من حافة الإفلاس لأنه أراد استعادته للعمل مع العائلة في تجارتها التقليديّة. إنه عالم أشبه بشبكة عنكبوت هائلة ليس فيها مكان إلا للضحايا أو القتلة.
«ماك – مافيا» مع ذلك تجربة عقليّة وبصريّة مهمة، تعكس ولأول مرة في عمل تجاري ناجح شكل الجريمة الجديدة، وتدفعنا رغم استمتاعنا بمشاهده المتقنة إلى التفكير مليّاً بهذا العبث الكبير المسمى بالرأسماليّة.