ماذا يعني التصويت بنعم أو لا في استفتاء الأكراد المطالبين بحكم ذاتي؟ الحقيقة أن التصويت لصالح استقلال الإقليم الكردي لا يعني فقط حكما ذاتيا للأكراد بقدر ما يهمّ النتائج التي سيتركها هذا القرار على مستقبل العراق والمنطقة عموما. المسألة عميقة. جذورها متأصلة في تاريخ العراق القديم وعراق ما بعد الغزو الأميركي في 2003.
الأكراد مكون أساسي من التراب العراقي وإن اختاروا الانفصال! تشريح الظاهرة له منطق سيكولوجي يحكمه وإن بدا غائبا على معظم التحليلات لطبيعة المنطلقات والمرحلة الداعية لطرح مسألة الاستفتاء في هكذا توقيت. لماذا يختار الأكراد إجراء استفتاء الانفصال في هكذا ظرفية يمر بها العراق؟ هل هو تأثر بما يجري في عواصم أوروبية عريقة على غرار استفتاء خروج بريطانيا من التكتل الأوروبي، أم هو مسار جار التنسيق والترتيب له منذ زمن بعيد؟
المسألة تطرح بأكثر عمقا إذا ما اعتمدت مقاربة قياسية بين الحالتين. بريطانيا ليست العراق والعراق حتما لن يكون بمثابة دولة مثل بريطانيا لجهة البنية الاقتصادية، والتسليحية، وربما حتى البنية المكوناتية، أي على مستوى الطبيعة العرقية المكونة للمجتمع البريطاني.
لكن ما هو مؤكد أنه رغم الأزمات التي يمر بها العراق الآن، ورغم سياسة تفقيره كدولة نفطية لها وزنها على مستوى العالم، فإن وزنه لا يقل أهمية عن أعتى الدول الكبرى. وحتما لا يظل مغيّبا عن محيطه الإقليمي والعالمي.
الإقليم المضطرب اقتصاديا والمنهك ماليا يحتاج إلى مراجعة شاملة لجميع علاقاته التجارية وكيفية التصرف في موارده بعيدا عن الحجج الواهية وأسلوب التضليل
التأثر بتجارب مماثلة
من هنا ربما يأتي تأثر القادة في الإقليم الكردي بما يجري على مستوى العالم من محاولات الخروج من التكتل والمطالبة بالاستقلال، على غرار تجربة بريطانيا وبعض الأقاليم الأخرى في العالم مثل إقليم كاتالونيا الإسباني الذي يدعو إلى إجراء استفتاء هو الآخر للمطالبة بالانفصال.
انفصال بريطانيا ليس بالضرورة كمثل انفصال إقليم كردستان العراق، إن تقرر، أو إقليم كاتالونيا الإسباني. التجارب مختلفة والدول أيضا مختلفة والمسألة بكل تمظهراتها مختلفة أيضا. العراق بلد يمر بمرحلة حرجة تحتاج تكاتفا وطنيا وإقليميا وربما أيضا مساندة عالمية ليعود العراق إلى سالف عهده.
العراق بلد منهك حربيا، غزو أميركي أول في العام 2003 لم يكف العراقيين تمزيقا وتفريقا وتهجيرا ليأتي تنظيم داعش الإرهابي مدفوع الأجر من إيران وتركيا ليستكمل المهمة ويسيطر على مساحات واسعة من العراق ويواصل سياسة التصفية العرقية والتقتيل الممنهج وارتكاب أفظع الأعمال الإرهابية، وهاهم الأكراد اليوم يطالبون باستقلال وحكم ذاتي وخروج عن صف الدولة العراقية.
لكن في المقابل ماذا جهّز الأكراد لمرحلة ما بعد الانفصال؟
عمليا الحديث عما بعد الانفصال يعد سابقا لأوانه، لكنّ مقاربة نظرية ربما تسمح بتعرية الكامن في عمق تفكير القيادة الكردية ممثلة في زعيمها مسعود البارزاني، وتكشف هوسها بعدم التراجع على الانفصال حتى لو تطلب ذلك استخدام السلاح.
معلوم تفكير القيادة الكردية في فكرة الانفصال أولا، وربما معلوم أيضا انتقاؤها للظرفية التي تقرر فيها إجراء الاستفتاء. المسألة تدور حول حكم ذاتي تعلم حكومة أربيل أنه بعيد المنال، لكنه ممكن من وجهة نظر القيادة. ممكن لجهة الظرفية التي ربما تسمح بتغيير آراء بعض المكونات داخل الإقليم نفسه التي كانت ترفض فكرة الانفصال.
بدا لعب القادة في الإقليم على هذه الزاوية. لكن في المقابل حتى وإن تطلب ذلك إحراج المكون الكردي والزجّ به للقبول بفكرة الانفصال. أي مآل ينتظر هؤلاء لجهة البنية الاقتصادية المهترئة ونشاط المعاملات التجارية المحدود، تضاف إلى ذلك الظروف المناخية التي قد تدفع بالإقليم إلى الهاوية؟
الوضع في الإقليم يبدو الآن أكثر خطورة مما تمر به العديد من الدول المصدرة للنفط، وهذا عائد إلى المدى الذي تعتمد فيه حكومة إقليم كردستان العراق على النفط
لسنا مع الانفصال أو ضده. لكن عمليا هل حسمت القيادة في الإقليم قرار خروجها وانفصالها عن بغداد بدراسة كل هذه المعطيات؟ ما هو مؤكد أن تبعات الاستفتاء ستكون كارثية على الإقليم الكردي قبل حكومة بغداد. جميع المؤشرات والدلائل توحي بذلك. الإقليم المضطرب اقتصاديا والمنهك ماليا يحتاج إلى مراجعة شاملة لجميع علاقاته التجارية وكيفية التصرف في موارده بعيدا عن الحجج الواهية وأسلوب التضليل الذي لن يفيد الإقليم كما حكومة بغداد آنيا وعلى المدى البعيد.
تبعات الانفصال
التقارير الواردة من العراق والتي ينجزها “معهد الدراسات الإقليمية والدولية” تقدم تحليلا مفصلا لأرض الواقع عن القضايا الأكثر إلحاحا في الإقليم الكردي كما العراق. عمل ميداني للباحثين أحمد علي وكريستين فان دن تورن، وكلاهما لديه سنوات من الخبرة في إجراء البحوث الميدانية حول بغداد وإقليم كردستان العراق، يقطع الشك باليقين حول ظروف الركود الاقتصادي والمالي التي يمر بها إقليم كردستان العراقي في السنوات الأخيرة.
استنادا إلى ما يقدمه المحللان فإن الوضع في الإقليم يبدو الآن أكثر خطورة مما تمر به العديد من الدول المصدرة للنفط، وهذا عائد إلى المدى الذي تعتمد فيه حكومة إقليم كردستان العراق على النفط، سواء أكانت بمفردها أم مع الحكومة الاتحادية في العراق، والأهمية النسبية للقطاع العام.
يضاف إلى ذلك تفاقم الاختلالات الهيكلية تحت حقيقة أن حكومة إقليم كردستان تفتقر لأدوات السياسة المعاكسة المتاحة لبعض البلدان ذات السيادة في حالات مماثلة، إذ أنها لا تصدر عملة خاصة بها، لذلك لا يمكن أن تغطي العجز عن طباعة النقود. فيما تترك الضرائب القليلة حكومة إقليم كردستان العراق مع القليل من مصادر الدخل البديلة، حيث أنها تظل حكومة غير قادرة على جمع المال عن طريق إصدار السندات.
ومن هنا ربما يأتي قرار الانفصال والاستقلال الذاتي كدافع لأربيل نحو التمتع بسيادة تسمح لها بقدر من التعافي الاقتصادي وتوفير سيولة مالية لتنمية قدراتها الذاتية. هذا ممكن لكن بالقدر الذي تسمح به موارد الإقليم محليا وإقليميا. ولا تخفى ارتباطات الإقليم مع حكومة بغداد، فهل ستسمح ظروف الانفصال النهائي وتوقيتها، إن تم فعلا، لأربيل بتجاوز كل هذه العراقيل والمطبات في ظرف وجيز، خاصة أنه معلوم الوقت الذي يأخذه الترتيب لمسائل كهذه.
مصلحة روسيا كما الأميركان أن يظل العراق مقسما، حتى وإن تظاهرت واشنطن بأنها لا تؤيد فكرة الانفصال
لكن يبدو أن حكومة إقليم كردستان العراق عازمة منذ وقت بعيد على خيار الانفصال. هذا تعكسه العلاقات التي سعت أربيل إلى ترتيبها مع أكثر من محور. في هكذا اتجاه ربما تعتقد أربيل أن الاتجاه نحو روسيا هو الحل عبر إحياء العديد من الشراكات وعقد الاتفاقيات التجارية، لكن ما لا يدركه قادة الإقليم أن مصلحة روسيا كما الأميركان أن يظل العراق مقسما، حتى وإن تظاهرت واشنطن بأنها لا تؤيد فكرة الانفصال.
وفي هذا الإطار كانت الزيارة التاريخية التي أداها كل من نيجيرفان البارزاني رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان ونائبه قوباد الطالباني والوفد المرافق لهما إلى روسيا كخطوة تاريخية في المجال السياسي والاقتصادي لإقليم كردستان العراق.
هذه الزيارة تعطي مؤشرا على طبيعة العلاقات وسياسة ربط المحاور التي كان الإقليم يسعى إلى ربطها مع العديد من القوى العالمية لتهيئة الظروف المناسبة لطرح فكرة الاستفتاء.
لكن ماذا عن الظروف الإقليمية التي ستترتب على الانفصال؟
العديد من المحللين والمتابعين لقضية استفتاء إقليم كردستان العراق يضعون في الاعتبار انعكاس التجربة على العديد من الدول المجاورة. تركيا مثلا الدولة الجار مستعدة للدفع بكل قواها نحو تعطيل هذا المسار، مهما كلفها ذلك. لأنها تعلم علم اليقين أن الدور آت عليها خصوصا وأنها تعيش مخاضا هي الأخرى مع الأكراد المطالبين بحكم ذاتي، فيما تتربص إيران بتذكية نيران هذه النزعة عبر ميليشياتها المنشورة في كل مكان.
النزعة الانفصالية للأكراد كمكوّن حيوي في العديد من الدول العربية، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، لها ما يبررها لكن طبيعة الظروف والمناخ العام في دولة مثل العراق يدفعان الحكومات إلى اتخاذ أسلوب التهدئة مخافة الانزلاق في طور جديد من المخاض قد لا تتحمله المنطقة مستقبلا.
العديد من البلدان العربية أعربت عن رغبتها في التدخل للوساطة بطرق سلمية. وتأتي على رأس هذه الدول المملكة العربية السعودية حيث عبّر وزير الدولة لشؤون الخليج ثامر السبهان عن استعداد الرياض للتوسط وتهيئة أجواء المباحثات ومعالجة المشاكل بين الإقليم وبغداد.
لكن مهما بدا من أجواء تدعو إلى التهدئة وأخرى متشنجة، على غرار ما دعا إليه نوري المالكي الذي حذر من “قيام إسرائيل ثانية” في شمال العراق في إشارة إلى الاستفتاء المرتقب في الـ25 من سبتمبر الحالي، فإن الحلول تظل ممكنة لإيجاد مخرج لهذه “الأزمة” والإبقاء على العراق مكوّنا موحدا.
وما يجب أن يعلمه كلا الطرفين سواء حكومة بغداد أو القادة في أربيل أن الوقت لم يعد يسمح في العراق بمواصلة التناحر. والمطلوب هو التهدئة والتفكير في إعادة إعمار العراق وفق أسس صحيحة خصوصا وأن الحرب على داعش أشرفت على نهايتها.
العرب
الحبيب مباركي
كاتب تونسي