يرى أطباء نفسيون أن انتشار الاضطرابات والأمراض النفسية في سوريا جاءت “ردَّ فعل طبيعيا على أحداث غير طبيعية” عصفت بمعظم السوريين، إلا أنها على فداحتها كانت متوقعة ومتناسبة مع “حجم الكارثة”.
مع بداية العام الحالي أعلن القاضي الشرعي في العاصمة السورية أن عدد المحجور عليهم في دمشق وحدها بلغ عشرة آلاف شخص خلال فترة “الأزمة”، بسبب نقص أهليتهم ووصولهم حدّ الجنون أو العته.
كما أكد مدير مشفى ابن خلدون للأمراض العقلية في حلب أن نحو 50% من سكان حلب “معاقون نفسياً”، وهي نسبة قريبة من تصريح منظمة الصحة العالمية التي أكدت في وقت سابق أن 40% من السوريين يعيشون “إعاقة نفسية”.
وتأتي الوقائع على الأرض لتؤكد أن هذا العدد لم يأخذ في الاعتبار آلاف الحالات الأخرى التي لم تصل إلى أروقة المحاكم والمنظمات، في بلد مزقته الحرب وفاقت ويلاتها كل احتمال، فما من شكل من أشكال الموت والقهر إلا وجربه أهلها.
كل هذا أدى إلى اضطرابات وأمراض نفسية جاءت “ردّ فعل طبيعيا على أحداث غير طبيعية” عصفت بمعظم السوريين، إلا أنها على فداحتها كانت متوقعة ومتناسبة مع “حجم الكارثة” كما يرى مستشار مشاريع الصحة النفسية في منظمة “مستقبل سوريا الزاهر” الدكتور محمد أبو هلال الذي عايش الوقائع وتعامل مع مئات الحالات في الأردن وتركيا.
أمراض الحرب
ويؤكد أبو هلال أن معظم السوريين تأثروا نفسياً بشكل متفاوت، فمنهم من تأثر بشكل مباشر، وهو ما يسمى أحداثاً صادمة جاءت نتيجة مشاهد القتل والتعذيب والتهجير القسري واللجوء، كما تعرض قسم أكبر لنوع أقل من الصدمات يسمى الأحداث الضاغطة، مثل صعوبات العمل والانتقال وظروف العيش والتأقلم.
وقسّم السوريين إلى ثلاثة أقسام بحسب ردة فعلهم إزاء الصدمة، فهناك فئة تأثرت وظهرت عليها أعراض نفسية واضطرابات أشدها وأكثرها شيوعاً “الاكتئاب واضطراب الشدة والقلق المعمم”. وهناك الفئة المقاومة وهي التي لم تتأثر نفسياً بالأحداث وتجاوزتها، أما المجموعة الثالثة فهي قليلة ولكنها مثيرة للاهتمام ويطلق عليها حالات “النضج ما بعد الصدمة”، وهؤلاء هم الذين يخرجون من أزماتهم أكثر نضجاً وتميزاً ويتحولون من ناس عاديين إلى قياديين في المجتمع.
ويرى الطبيب النفسي أن أكثر الناس تعرضاً لهذه الأمراض والاضطرابات هم أصحاب الإعاقات والذين تعرضوا للتعذيب أو الاغتصاب أو فقدوا ذويهم، محذراً من مخاطر العلاج الخاطئ الذي يلجأ إليه بعض المرضى بتعاطي المخدرات أو الكحول مما يزيد من تفاقم المرض ويؤدي إلى الإدمان.
ولفت إلى ضرورة العمل على إيجاد قاعدة عيش مقبولة للناس بشكل أساسي كعلاج مبدئي للحالات البسيطة، وتوفير خدمات اجتماعية وشبكات تكافل ورعاية. أما الفئة التي تعاني اضطرابات فلا بد من توفير خدمات متخصصة لها.
وعلى صعيد المخاطر المستقبلية حذر الدكتور أبو هلال من اضطرابات خطيرة تصيب الأطفال، ربما تظهر في مراحل المراهقة باضطرابات شديدة وحادة.
عقبات ومخاطر
من جهته، يفرّق الدكتور نور الدين القاضي منسق مركز “الياسمين” للدعم النفسي بمخيم “أطمة”، بين مناطق سيطرة النظام ومناطق المعارضة المسلحة من حيث الاضطرابات النفسية والعقلية.
ويؤكد ما ذهب إليه مسؤولو النظام في دمشق وحلب، قائلاً إن نسبة الأمراض النفسية ربما تصل إلى 90% في مناطق سيطرة النظام بحلب نتيجة نقص الموارد والضغوطات الهائلة.
وأضاف القاضي في حديث للجزيرة نت أنه بعد تدمير مشفى ابن خلدون لم يبقَ في حلب مركز مختص يستقبل الحالات النفسية سوى قسم صغير استحدث في مشفى الرازي، بينما تحظى مناطق سيطرة المعارضة باهتمام جيد، فمناطق إدلب وحلب وريف حماة الشمالي فيها أكثر من مئة مركز دعم نفسي، والعدد نفسه موجود في المخيمات على الشريط الحدودي الشمالي.
وبحسب الدكتور القاضي فقد زاد تدخل بعض المدّعين الأمرَ سوءاً، خاصة أولئك الذين يزعمون المعالجة الروحية ويستثمرون الدين بشكل خاطئ لتمرير أفكار معينة أو تحقيق مكاسب مادية.
وأكد أن بداية العلاج تكون في تأمين أساسيات الحياة، لذا تعمل مراكزهم على برامج تمكين المرأة ودعم الطفل بشكل أساسي.
الجزيرة