يُخطئ من يظن أن الحديث عن الثقافة نوعٌ من الترف في الظرف السوري الراهن. يخطئ من يرفض الاعتراف بأن “أصل” كل مشكلة كان يكمن في الثقافة، وأن الثقافة هي نفسها مكمن الحلّ لجميع المشكلات بفهمٍ معين. يظلم نفسه وشعبه وبلاده كل من ينكر أننا وصلنا إلى هذا الواقع بسبب الثقافة، وأن التعامل مع الواقع المذكور بطريقة تساعد الشعوب على تحقيق تطلعاتها لا يمكن أن يحصل إلا من خلال الثقافة.
وواهمٌ من يعتقد أن التركيز يجب أن يكون الآن “فقط” على إنقاذ الثورة بالإجراءات العاجلة والتركيز على الواقع الراهن، خاصةً السياسي والعسكري. فالمنطق العقلي والتاريخي يؤكد أن كل شيء يتعلق بهذه القضايا يحتاج أول ما يحتاج، وأكثر ما يحتاج، إلى الفكر والدراسة والتحليل، أي الثقافة بكل معانيها ومقتضياتها.
ثمة مقولةٌ مشهورة تؤكد أن مراحل ما بعد الثورة أصعب بكثير من الثورة نفسها. يؤكد التاريخُ هذه المقولة، ويؤكدها بشدة الواقع السوري الراهن. ولو نظرنا بشفافية إلى ما جرى ويجري في ملابسات الثورة السورية، وفي كل بقاع الثورة في الوطن العربي، فسنرى مصداقية المقولة المذكورة، وكيف تفرض نفسها في كل مجال وعلى أكثر من مستوى.
لنخرج من حصار الثنائيات الخانق. فمن يعمل للثورة الآن، بالطرق التي يراها، يعمل لها من دون أن ينتظر رأياً في مقال أو تصريحاً في منبرٍ إعلامي. والحديث عن ثورة ثقافية هو حديثٌ الآن في ما يمكن أن يسمى “تجاوزاً” بالفريضة الغائبة… أيضاً بالمعنى الثقافي، وربما الشرعي، لا سيما أن انشغالاً كاسحاً بالشأن السياسي البحت، بمعانيه ودلالاته التقليدية، هو سِمة الواقع السوري في هذه المرحلة. وستنتج عن هذا الانشغال مفارقة تاريخية خطيرة، حيث يزهد السوريون عن الشأن الثقافي في الوقت الذي هم في أمسّ الحاجة إليه.
يمثل هذا تحدياً كبيراً من جانب، لكنه سيكون فرصةً من جانبٍ آخر لمن وضع نفسه على هذه الثغرة وأمضى فيها حياته، أفراداً كان هؤلاء أو مؤسسات. فبينما الملايين من السوريين مشغولون بمراقبة “ما جرى ويجري وسيجري”، يجب على قلةٍ من السوريين أن تسخّر كل طاقاتها لنعرف من خلال جهدها “ماذا جرى وماذا يجري وماذا سيجري”، بحدٍ مطلوب من دقة بحثية ومنهجية تليق بالظرف الذي يعيشه السوريون جميعاً.
لا يجوز التعامل بكل هذه العفوية مع النقلة التاريخية الخطيرة التي مرّت وتمر بها سورية ومعها العرب بأسرهم، منذ أكثر من أربع سنوات. كيف جرى ما جرى ولماذا؟ إلى أين نسير من هنا؟ ماذا يحمل لنا المستقبل؟ هل لا يزال لدى السوريين خيارات مختلفة؟ ما هي تلك الخيارات؟ وكيف يمكن صياغتها؟ وكيف يمكن تجاوز أخطاء الماضي وخطاياه الكبيرة؟ وأين تكمن التحديات الحقيقية؟
أسئلةٌ ستتولد عنها أسئلةٌ أكثر مما نتصور، وكلها تحتاج إلى إجابات علمية منهجية مدروسة. لا ينفعنا في شيء أن نتوقع الحصول على إجابات من خلال أعمدةٍ ومقالات رأي، أو مقابلات عابرة وسريعة في منابر الإعلام الجماهيري.
فلكل ساحةٍ في الحياة البشرية طبيعتها الخاصة ودورها المحدد، والساحة المذكورة مُشبعةٌ الآن بكل ما يمكن توقعه من رؤى وطروحات تلهث وهي تحاول أن تلاحق اللحظة الراهنة، ويهدف كلٌ منها إلى تحقيق هدفٍ عاجل، وهي أهدافٌ من الطبيعي أن يكون بعضها متضارباً إلى حدٍ كبير. وهذه عمليةٌ يمكن أن تزرع الفوضى وتشتت التفكير، وتملأ عقل السوري والعربي بأسئلةٍ ليست لها إجابات، وأوهامٍ ليس لها رصيد، وحيرةٍ ليس منها مخرج.
لا بد إذاً، للبعض على الأقل، أن يباشر بجدّيةٍ العمل في ساحةٍ أخرى. ساحة الفكر والدراسة والتحليل العلمي المنهجي الأكاديمي. لا مثالية في الموضوع إن قلنا: جاء أوان علماء الاجتماع والسياسة والتاريخ والتربية والاقتصاد ودقّت ساعة العمل بالنسبة إليهم. لا عذر لهؤلاء بعد اليوم. فالواقع السوري الراهن يفرض على الجميع أن يسمح لهم، بل ويُطالبهم، بالعمل والعطاء والإنتاج.
الحاجةُ ماسةٌ اليوم لأجندات بحثية جديدة. لعملٍ مؤسسي علميٍ منظّم فعال يُلهم حركة الواقع، ويجيب على أسئلته الأساسية، ويرسم ملامح الممارسات العملية فيه، ويعمل على ترشيد مسيرة ورؤية العاملين على مختلف المستويات.
ثمة تعريفٌ للثقافة طرحه النمسوي غوستان فون غرونبوم يصفها بأنها “الجهد المبذول لتقديم مجموعةٍ متماسكة من الإجابات عن المآزق المحيرة التي تواجه المجتمعات البشرية في مجري حياتها، أي هي المواجهة المتكررة مع تلك القضايا الجذرية والأساسية التي تتم الإجابة عنها عبر مجموعة من الرموز، فتشكل بذلك مركباً كلياً متكامل المعنى، متماسك الوجود، قابلاً للحياة”.
بعيداً عن الجدل في المعاني المباشرة ل “موت السياسة” و “موت الأيديولوجيا” في سورية الراهنة، من الواضح أنهما لم يتمكنا على الإطلاق، على رغم ضجيجهما الراهن، من تقديم إجابات عن الأسئلة الكبرى التي تواجه السوريين، وتتعلق بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. ربما كانت عملية “إحياء الثقافة” بديلاً يستحق التجريب على الأقل.
وائل مرزا – الحياة