يقال إن ما يسمى “بالمرتزقة” جزء من صناعة عالمية يعمل بها “وبعبارة أخرى يقع ضحيتها” مئات الآلاف من البشر في أنحاء العالم, وهي امتداد لما كانت تقوم به الدول الاستعمارية سابقاً من تجنيد للمرتزقة واستخدامهم كجنود في مجال الحروب, وفي يومنا هذا يقدر بعض المختصين العسكريين قيمة وعائدات الأموال من صناعة “المرتزقة” في العالم بأكثر من 100 مليار دولار سنوياً تستفيد منها العديد من الشركات العسكرية والشركات الأمنية الخاصة التي تنشط في دول تملك مؤسسات عسكرية ضخمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإسرائيل وجنوب إفريقيا ودول أخرى, وفي دول ذات إمكانيات عسكرية أقل من الدول السابقة, مثل دول أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا والشرق الأوسط.
أما من حيث اللغة, فقد تطورت كلمة مرتزقة وأخذت تنحو نحو معاني جديدة في العقود السابقة, فهي تعني لغوياً “ملتمسي الرزق”, ولكن مع اتساع ويلات التسلط والنفوذ الاستعماري في العالم وتنوع وسائل العالم الحصول على الرزق وصعوبتها وانتشار الفقر والجهل في دول العالم الثالث سيما تلك الدول التي أنهكتها تبعات الحروب الأهلية والداخلية, دخل هذا المصطلح “المرتزقة” في النفق المعتم للتجارة غير المشروعة, وأصبح مرادفاً “للمطاريد الصعاليك وشذّاذ الآفاق وقاطعي الطريق”.
أما حالياً فقد أصبحت كلمة المرتزقة تعبر عن الأشخاص الذين يمتهنون القتال والقتل “المأجور” كوسيلة للرزق ويتفننون في احترافها لجني المزيد من المال, ومنهم من يخدم في القوات المسلحة التابعة لدولة أخرى غير دولته حيث يتم الزج به في حروب لا مصلحة له فيها سوى المردود المادي فقط بينما تخدم الحروب تلك الدول والمليشيات التي تعتمد على استئجار المرتزقة بشكل كبير.
أما في الملحق الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949م فقد ورد تعريف المرتزقة على الشكل التالي:
“المرتزق هو كل شخص تائه يجري تجنيده محلياً أو في الخارج, ليقاتل في نزاع مسلح أو يشارك فعلاً ومباشرة في الأعمال العدائية ضد الشعوب”.
وخلال ثورات الربيع العربي, لمعت كلمة المرتزقة وطرقت الآذان كثيراً عند الشعوب العربية وخاصة أثناء أحداث الثورة الليبية التي تمكنت من الإطاحة بنظام حكم “العقيد معمر القذافي” بعد أن ترددت أنباء من مصادر مختلفة عن استخدام نظام القذافي مرتزقة أفارقة من دول مختلفة في “القارة السمراء” في هجومه على عدد من المدن الليبية لقمع الثورة والاحتجاجات.
أما في سورية, فقد عمد النظام السوري منذ البداية إلى الاستفادة من هذا المصطلح لقمع الثورة, وقد تمكّن النظام من تطوير استخدام مفهوم الارتزاق يوماً بعد يوم, في ظل تصاعد هجمات قوات المعارضة ضد قواته, وبعد موجة الانشقاقات الفردية الكبيرة التي طالت المؤسستين الأمنية والعسكرية, ومع الخسائر الكبيرة في الأرواح التي تكبدتها قوات النظام في أنحاء مختلفة من سورية كان لابد له من الاستعانة بأعداد كبيرة من المرتزقة لرأب الصدع الكبير الحاصل في قواته من أجل الاستمرار في الأعمال القتالية على الأرض.
بداية تم تكريس مفهوم المرتزقة بشكله المحلي, واتسم بالبعد الطائفي من خلال تشكيل عصابات طائفية من الداخل السوري مقابل مبالغ مادية رخيصة مثل “كتائب البعث وجيش الدفاع الوطني”, ورغم ذلك لم ينجح النظام في القضاء على الحراك المسلح, فاضطر أخيراً للاستعانة بآلاف المرتزقة من لبنان والعراق وإيران والباكستان والهزارة الأفغان, وتم استقدامهم بمسميات مختلفة كلواء أبي الفضل العباس وحركة النجباء العراقيين, ومجموعات من الباسيج والحرس الثوري الإيرانيين, إضافة إلى مقاتلي النخبة التابعين لحزب الله.
إلاّ أن مفهوم الارتزاق في هذه المرحلة تميز بطابع الحلف الطائفي والمشاريع ذات البعد الإقليمي وكانت إيران رأس حربته, وهي الدولة الطائفية التي تطمع بالهيمنة على دول الجوار لتصدير “ثورتها”, صحيح أن هؤلاء المرتزقة يتقاضون المال إلّا أنهم يحاربون الشعب السوري على أساس خلفيات طائفية كحماية الأماكن المقدسة في سورية مستغلين التواطؤ الدولي الذي بات واضحاً في تفضيل “ما يعرف بالمد الشيعي” في العراق وسورية على حساب ما يزعمون أنه المد “الإرهابي”.
لكن ما المصلحة الحقيقية التي يجنيها هؤلاء المرتزقة من قتالهم إلى جانب قوات النظام السوري؟
يؤكد العديد من الناشطين السوريين على وجود المرتزقة العراقيين والإيرانيين واللبنانيين وماتزال الثورة في مهدها، وكان النظام ينكر ذلك على لسان المتحدثة باسمه “بثينة شعبان”, لكن مع اتساع دائرة الحرب وترك الشعب السوري يقاتل وحيداً في الساحة بمفرده, بات من المحتَّم الإعلان عن تواجد هؤلاء المرتزقة خصوصاً عندما أعلن الأمين العام لحزب الله اللبناني أن “طريق القدس يمر عبر دمشق”, وبعد ذلك بدأت جثامين المقاتلين تتوارد بالعشرات إلى الضاحية الجنوبية وطهران وبغداد, ولم يعد استئجار هؤلاء المرتزقة يتم في الخفاء, بل تم تعويض أعداد المرتزقة القتلى بأعداد أكبر من المرتزقة الجدد وفي العلن.
المصلحة هي عقائدية في مفهومها العميق ومادية في مفهومها السطحي وخصوصاً عند هؤلاء الأفغان الفقراء, ومن جهة أخرى هم يقاتلون بأوامر قياداتهم في أحزابهم أو دولهم بعد أن يتم إقناعهم بأن الحرب السورية هي حرب مقدسة وتستهدف محور المقاومة والممانعة بعد أن يتم تغذية النعرة الطائفية عندهم.
وقد أثبتت المعارك الأخيرة التي دارت في حلب وحصدت أرواح المئات من هؤلاء المرتزقة على أبواب المدينة, أنهم مجرد أرقام في تجربة مستنسخة عن التجربة الأمريكية في العراق, عندما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعلن عن أسماء القتلى من الأمريكيين وتتغاضى عن ذكر المئات من أسماء المرتزقة من أمريكا اللاتينية وفيجي وأوروبا الشرقية وإفريقية لأنهم مجرد أرقام في دنيا الارتزاق.
وبالنظر إلى واقع الحرب الدائرة في سورية نجد أنها غيرت العديد من المفاهيم بما فيها مفهوم “المقاتلين المرتزقة” الذي أخذ بعداً أكثر تعقيداً, تماماً كحال التعقيد السياسي الحاصل على الطاولات الدولية للمجتمع الدولي الذي يقصف الأرض التي سبق أن أحرقها النظام بحجة الإرهاب, بينما يشرعن تواجد عشرات الآلاف من المرتزقة الإرهابيين الطائفيين في سورية.. في مشهد يعلله السوريون بالقول:
“خذلان المجتمع الدولي وتواطؤه مع جرائم روسيا وإيران, لم يعد مستغرباً, لأن المرتزقة ليسوا فقط مقاتلين إلى جانب النظام على الأرض, بل هم مرتزقة يحمونه سياسياً لأن السياسة ليست بعيدة عن عالم الارتزاق”.
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود