يتّهم البعض تركيا بالانحياز سريعا إلى أحد أطراف الأزمة الخليجية التي اندلعت أخيراً بين الإمارات والسعودية والبحرين من جهة، وقطر من جهة أخرى، قبل أن تتّسع بشكل متسارع لتضم المزيد من الدول، لكن تفاصيل الموقف التركي العلني فضلاً عن الجهد المبذول خلف الأبواب المغلقة لا تؤيّد مثل هذا الزعم، والدول المعنيّة بهذا الأمر مباشرة تعي ذلك، وإن فضّلت ألا تعكسه في وسائل إعلامها.
في بداية الشهر الحالي، توجّه وفد تركي من شخصين رفيعَي المستوى في زيارة غير معلنة إلى السعودية للقاء مسؤولين سعوديين على أعلى مستوى في المملكة، وذلك بعد بضعة أيام فقط على اندلاع الأزمة. الوفد الذي ذهب بتكليف من الرئيس رجب طيب أردوغان كان يهدف إلى تحقيق ثلاثة أمور، أوّلها معرفة ما هي المشكلة بالضبط، لأنّ أحدا ما لم يكن يعلم ما هي المشكلة بالتحديد، وما هو حجمها الحقيقي، لا سيما أنّها جاءت فجأة ومن دون مقدّمات أو مؤشرات أو سابق إنذار. فالمسؤولون السعوديون والقطريون كانوا قد التقوا ثلاث مرات على الأقل أخيراً، في اجتماعات رفيعة المستوى، ولم تتم إثارة أي شيء عن أي خلاف أو انزعاج او مشكلة.
أمّا المهمّة الثانية للوفد، فكانت الحصول على جواب من المسؤولين السعوديين حول «لماذا الآن في هذا التوقيت؟»، وما هو العمل الذي قد يكون ارتكب وتسبب بإطلاق هذه الأزمة؟.
أمّا الأمر الثالث فهو معرفة كيف باستطاعة تركيا أن تساعد لحل الموضوع سريعاً قبل أن يتفاقم، خاصّة أنّ لها علاقات جيّدة مع قطر ومع السعودية، ولها مصلحة كذلك في بقاء مثل هذا الأمر، وبالتالي فهي في موقع يسمح لها بالفعل بنزع فتيل الأزمة.
خرج الوفد من اللقاء من دون أن يحصل على إجابات شافية على أي من هذه الأسئلة، لكنّه فهم من خلال جملة قيلت على مسامعه أنّ هناك تصعيداً كبيراً قادماً.
لا تريد أزمة جديدة
الموقف التركي كان ولا يزال يعتبر بأنّ المنطقة تشهد ما يكفي من حروب وأزمات، وألا مصلحة في افتعال أزمة جديدة تؤدي إلى تفاقم الأوضاع وإلى فتح جبهة جديدة أو خلق محور جديد في المنطقة، أنقرة لا تريد أن تكون فيه.
وإذا ما رجعنا إلى المرحلة السابقة، سنجد أنّه حتى خلال الأزمة التي طرأت على العلاقات الثنائية بين أنقرة والرياض إبّان الإطاحة بحكم محمد مرسي في مصر، حاولت تركيا الحفاظ على علاقات جيّدة مع المملكة وتفادي التصادم معها لأنّ هناك أولويات تتعلق بموازنة ومواجهة تمدد إيران في المنطقة، ولذلك فهي لا تريد لمثل هذه الأزمة الحالية أن تؤدي إلى ضياع جهد عقد من الزمان في بناء علاقات متينة مع السعودية.
عندما قررت ثلاث دول خليجية قطع علاقاتها الدبلوماسية مع قطر، تواصل الاتراك مع الجانب القطري للسؤال عن ماهية الطلبات الرسمية المقدّمة إلى قطر علّهم يساعدون في حلحلة الأمر، لكن الجانب القطري لم يكن لديه جواب لأنّ الدول التي قطعت علاقاتها مع الدوحة لم تتقدّم إليها بأي مطالب بشكل رسمي، وهي حالة أدخلت العديد من الدول الكبرى في حيرة كذلك.
التحرك التركي
وضع مجلس الوزراء التركي الذي اجتمع في ذلك اليوم الأزمة الخليجية على رأس جدول أعماله لبحث أمر واحد وهو «كيف بامكان تركيا نزع فتيل الأزمة؟».
تمخّض الاجتماع عن ثلاث أولويات، هي الاتصال المباشر بالملك سلمان بن عبد العزيز، وإنشاء خط ساخن مع الكويت التي كان يتم الحديث عن اضطلاعها بدور الوسيط في الأزمة، وإطلاق جهد دبلوماسي للتواصل مع دول العالم لحثّهم على المساعدة في وقف التصعيد وكبح جماح الأزمة للمساعدة على حلّها.
وبالفعل قام الرئيس التركي بالاتصال مباشرة بالملك سلمان، فقد كان يراهن على حكمة وسعة صدر العاهل السعودي، خصوصا أنّ السعودية هي اللاعب الأكبر في المنطقة العربية، وعرض أردوغان خلال الاتصال فعل كل ما هو ممكن لنزع فتيل الأزمة، لكن مرّة أخرى لم يتم طلب أي شيء مباشر، وهو ما يفهم منه ربما أنّ المملكة لا تريد أي وساطات من أي أحد، الأمر الذي أكّده بالفعل وزير الخارجية السعودي عادل الجبير خلال سفره إلى ألمانيا وفرنسا.
انتقل الجهد التركي بعدها للتركيز على الكويت، وهي من أقدم الدول الخليجية التي كانت قد فتحت خطوطاً مباشرة مع تركيا، وعملت على تمتين العلاقات بشكل سريع وعلى زيادة التعاون الثنائي مع أنقرة لا سيما الاقتصادي والاستثماري وكذلك الأمر على المستوى الشعبي. يعي المسؤولون الأتراك مدى عبء المهمة التي يقوم بها سمو الأمير، لكنّهم يدركون كما قال لي مصدر رسمي «مدى ثقل وحكمة وخبرة سمو أمير الكويت فضلا عن الموقف الإيجابي الدائم للكويت في مثل هذه الأزمات، الأمر الذي يؤهلهم للعب هذا الدور»، لكن بقي الجانب التركي متخوّفاً من ان هناك أطرافاً لا تريد التفاوض فضلا عن حل الأزمة برمتها، وإنما تريد التصعيد وهو ما يعني إفراغ أي جهود وساطة حقيقية من أي طرف من مضمونها او قطع الطريق عليها قبل انطلاقها.
في خضم هذا الأمر، قام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنشر تغريدة تتناقض مع موقف وزارة خارجيته ووزارة دفاعه، وقد فهم منها إعطاء الضوء الاخضر للتصعيد وفرض المزيد من الضغوط على الدوحة. بدأت وسائل الاعلام التابعة للدول المقاطعة تشير إلى أنّ الموضوع لا يتعلق بقطر فقط، وإنما بمواضيع أخرى لها طابع أكبر كحركة حماس والإخوان المسلمين، وهذا يعني توسيع دائرة الصراع في المنطقة والجهات التي يراد إدخالها فيه.
جسر جوي
باشر الجانب التركي بعدها اتصالاته مع العديد من العواصم للحث على التهدئة وحل الموضوع بالحوار، وقد كان الموقف الفرنسي والألماني جيّدا للغاية، صحيح أنّه لم يوقف التصعيد تماماً، لكنّه كان مؤشرا على وجود حسابات أخرى. حافظ المسؤولون الاتراك خلال كل هذه المرحلة على إيصال الرسالة نفسها، وهي الرغبة في حل الموضوع عبر الحوار لان المنطقة لا تتحمل أزمة جديدة.
وبموزاة الجهود الدبلوماسية التي كانت تقوم تركيا بها حتى هذه اللحظة، شرعت أنقرة بارسال طائرات شحن محمّلة بالأغذية والألبان ومشتقاتها إلى الدوحة، وأنشات ما يشبه جسراً جوياً لكي لا تنعكس المقاطعة والحصار على المواطنين والمقيمين هناك، كما زادت أنقرة من أذونات العبور الجويّة للدوحة.
في نهاية المطاف فقد كان مطلوبا من تركيا بحكم اتفاقيات التعاون الإستراتيجي التي وقّعت مع قطر عام 2014 أن تقوم بمثل هذا الأمر، والا فهذا يعني أنّه ليس هناك أي قيمة لهذه الاتفاقيات، فضلاً عن انّ الدوحة كانت أوّل من أدان في يوليو 2016 المحاولة الانقلابية الفاشلة في أنقرة، وبالتالي فمن المنطقي أن تتوقع أن يتم رد الجميل لها في موضع الحاجة. صحيح انّ هذه الخطوات كانت لمساعدة الدوحة لكن ليس فيها بتاتاً ما هو موجّه ضد السعودية، وبين هذا وذاك اختلاف كبير.
اتفاقية نشر القوات
في 7 يونيو، وافق البرلمان التركي على مشروع قانون يسمح بنشر قوات عسكرية في الأراضي القطرية، ثم قام رئيس الجمهورية في اليوم التالي بالمصادقة عليه، علماً أنّ هذه الاتفاقية كان قد تمّ توقيعها قبل عامين وجرى إلحاقها عام 2016.
وترى بعض الأوساط أنّ السعودية غاضبة من هذا الإجراء الذي تمّ، وتشير بعض المصادر كذلك إلى أنّها أرسلت عبر الطرق الدبلوماسية ما يفيد بأنّها غير راضية عنه. لا بدّ انّ الجانب السعودي ربط هذا الأمر بالأزمة الأخيرة مع قطر، لكن التصويت على مسودة القانون كان مدرجاً على جدول الأعمال منذ وقت، كما أنّه سبق للجنة العلاقات الخارجية في البرلمان التركي أن ناقشت موضوع نشر قوات و مستشارين عسكريين في قطر، بالإضافة إلى مركز تحكّم في بداية مايو الماضي، وقد تمّ حينها إعداد مسودّة القانون التي تمّ التصويت عليها قبل أيام، وهذا تاريخ بعيد جداً عن تاريخ اندلاع الازمة.
وعلى الرغم من تجاهل هذه الحقائق، ترى بعض المصادر الرسمية، التي لها صلة مباشرة بالموضوع، أنّ الجانب التركي كان قد وضع السعودية في صورة الاتفاق الذي يفضي إلى إنشاء قاعدة عسكرية في الدوحة، وأن السعودية لم تبد أي اعتراض على ذلك آنذاك، ولذلك فلا مبرر حالياً لغضب أو اعتراض، خاصة اذا ما أخذنا بعين الاعتبار أنّه توجد قاعدة أميركية في الدوحة، وكذلك الامر بالنسبة إلى بعض دول الخليج التي تضم قواعد عسكرية لدول أجنبية متعددة.
هناك من يفسّر الموقف السعودي من زاوية أنّ القرار في هذا التوقيت هو دعم مباشر للدوحة وانحياز واضح لها في الأزمة الجارية، لكن اذا كان هناك فعلاً خوفٌ ما لدى الدوحة من تصعيد محتمل ضدّها بشكل أدى إلى أن تقوم أنقرة إلى إرسال قوات لها، فهذا يعني انّ الدوحة خائفة من جيرانها، وبالتالي فان عبء تفسير الموقف فضلا عن تهدئته يقع على عاتق جيران الدوحة وليس أنقرة.
حتى إذا ما أردنا تفسير الموضوع بشكل عكسي، لا يوجد هناك أي مبرر لقلق أو خوف أي دولة خليجية من هذه الخطوة التي أقدمت تركيا عليها، إلا اذا كان لدى البعض نيّة ربما في اتخاذ قرار تصعيدي يصل إلى حد التدخل العسكري.
تهيئة الأرضية للتفاوض
ومع هذا.. فإن أنقرة ظلّت ولا تزال تدعو إلى حل الأزمة بالطرق الدبلوماسية واعتماد لغة الحوار والتفاوض، وقد عبّر عن ذلك كل المعنيين بهذا الامر بدءا من رئيس الجمهورية مروراً برئيس الوزراء وليس انتهاءً بوزير الخارجية. الخطوات التي اتخذتها تركيا حتى الآن يجب ألا يُنظر إليها على انّها انحياز بقدر ما هي تحضير للظروف الملائمة لحل المسألة بالحوار والتفاوض.
ما اتخذته أنقرة مع قطر يأتي في إطار إلتزاماتها المباشرة في علاقاتها الاستراتيجية معها، وربما يفسر ذلك على أنه دعم، لكنّه بالتأكيد لا يمكن أن يفسر على أنّه اعتداء على الآخرين أو تحدٍ لهم، على الأقل طالما أنّه بقي في هذا المستوى حتى الآن.
في نهاية المطاف، يجدر ألا ينظر إلى هذا القرار على انه تهديد لأي طرف بقدر ما هو تمهيد لتهيئة الأرضية اللازمة لحل الأزمة عبر الحوار وعبر عملية تفاوضية مثمرة تدعم جهود الكويت.
اذا ما كانت الدول الأخرى جادة في التوصّل إلى حل ذي معنى عبر التفاوض والحوار، فذلك يحتاج إلى أن يشعر الطرفان بأنّهما قادران على التفاوض الحر على الطاولة، وهذا ما تساعد عليه الإجراءات التركية المتّخذة.
د. علي حسين باكير – القبس الإلكتروني