ياسر الزعاترة
في خطابه يوم السبت الماضي حول تطورات الحرب على قطاع غزة وحركة حماس، قال نتنياهو ما نصه: “ندعو المجتمع الدولي إلى العمل والانخراط في العمل من أجل إعادة بناء غزة، لكن ما لا يقل أهمية، والذي قد يفاجئ الكثيرين ولكنه لم يفاجئنا، هو هذه العلاقة التي تكونت بيننا وبين الدول الإقليمية في هذه المنطقة، وبعد أن تضع الحرب أوزارها سيُفتح المجال أمامنا لفرص جديدة”.
من المؤكد أن نتنياهو يكذب حن يقول إن الأمر لم يفاجئه. صحيح أن اتصالات سرية كثيرة كانت ولا تزال تجري بين عدد من الدول العربية التي باتت تعرف بأنظمة الثورة المضادة وبين الكيان الصهيوني، حتى وصل الأمر بوزير الخارجية (ليبرمان) حد القول إنه شبع منها (أي من اللقاءات السرية)، ويريد لقاءات في العلن، غير أن المؤكد هو أن مستوى العبث السياسي الذي أسفرت عنه الحرب على قطاع غزة كان مفاجئا بالفعل لنتنياهو، بل حتى للأميركان أنفسهم، إذ وصل الحال بمصر السيسي أن تكون أقرب إليه من الولايات المتحدة التي كانت حامية الكيان تاريخيا، والمدافع التقليدي عن جرائمه.
لا حاجة لتكرار ما قلناه مرارا هنا من أن ما يفسر هذا التطور في مشهد العلاقة بين الأنظمة المشار إليها وبين الكيان الصهيوني يتمثل في أن لديها أولوية سياسية لا تريد أن يشغلها أي شيء عنها، وهي مطاردة ربيع العرب والثورات، وتلقن الشعوب درسا بألا تفكر في الثورة أو حتى المطالبة بالإصاح السياسي (عبر التحذير من مصير كمصير سوريا وليبيا واليمن)، وهي أولوية تستدعي التقارب مع عدو الأمة الأكبر، بخاصة أنه الأقدر على التأثير في الغرب الذي ما لبث يطالب (أحيانا بالحريات والديمقراطية)، فكيف حن يضيف البعض إلى تلك الأولوية شكلا من أشكال الصراع مع إيران، ليس خوفا من غزوها (الغزو تُدفع أميركا كلفة الحماية منه)، وإنما خشية
استخدامها للأقليات الشيعية في إثارة بعض المشاكل هنا وهناك؟!
ولكن لماذا يَحشر نتنياهو هذا الكلام الذي بات معروفا على رؤوس الأشهاد، ولم يعد سرا في معرض خطاب يتحدث فيه للمجتمع الإسرائيلي عن تطورات الحرب على قطاع غزة؟
السبب بكل بساطة هو أنه يريد من ذلك المجتمع أن يصبر على تكاليف الحرب، بخاصة على الصعيد البشري بعدما أصبح مجتمعا لا يحتمل الخسائر، ولسان حال نتنياهو هنا هو: أيها الشعب الإسرائيلي، نحن أمام فرصة عظيمة سيكون لها ما بعدها على الصعيد الاستراتيجي، وهذه المنظومة العربية التي تريدنا أن نضرب حماس بصفتها واحدة من روافع الإسام السياسي في المنطقة، ستكون رصيدا استراتيجيا لنا، وستوفر لنا فرصة تسوية القضية مع الفلسطينين كما نريد، ما يفرض علينا أن نتحمل هذه الخسائر الآنية من أجل أمن ورخاء مستقبلي لم نحلم به من قبل.
هو يقول لهم إن الفرص العظيمة التي يقدمها لنا هذا التطور في المشهد الإقليمي تستحق أن نضحي من أجلها بدل أن نظل جزيرة معزولة في عالم عربي يكرهنا، وهو محق في واقع الحال بالمنطق السياسي والاستراتيجي في حال افترضنا أن هذه الأنظمة ستفرض إرادتها على الشعوب، وستتمكن من تجاهل أشواقها على صعيد الحرية في الداخل، وعلى صعيد المواجهة مع عدو الأمة الأكبر ممثلا في الكيان الصهيوني.
ولعل ذلك هو ما يفسر الرسائل التي بعث بها نتنياهو إلى قطر كونها (إلى جانب تركيا) تغرد خارج السرب، بخاصة بعد أن خرجت سوريا من التداول وبات نظامها يستجدي رضا الغرب أيضا، وشراكته في الحرب على “اإرهاب”، فيما تبحث إيران عن رضاه أيضا عبر صفقة نووية.
ولذلك كان تهديد نتنياهو لقطر واضحا وصريحا، عبر اتهامها بدعم الإرهاب ودعم حماس، وهو أيضا ما يفسر الهجمة الصهيونية السياسية والإعامية على السياسة القطرية، بل تحريض الولايات المتحدة عليها.
هذا ما يحلم به نتنياهو، وذلك أيضا ما يحلم به زعماء أنظمة الثورة المضادة، ومن ضمنهم للمفارقة محمود عباس الذي سيكون سعيدا بالحصول على غطاء عربي للعبث السياسي الذي يمارسه على صعيد القضية الفلسطينية، لكن تحوُل ذلك إلى واقع عملي ليس قدرا بأي حال، فالأمة التي أفشلت مشروع الشرق الأوسط الجديد بعد أوسلو 93، والأمة التي أفشلت مشروع إعادة تشكيل المنطقة من خلال الغزو الأميركي للعراق بعد 2003، والأمة التي فجرت ثورات رائعة خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، والأمة التي تقاتل في سوريا والعراق ضد مشروع تمدد إيراني أرعن، والأمة التي تنتصر في غزة، وتنتصر لغزة في مواجهتها مع العدو، هذه الأمة سترد على هذا التحالف الجديد بين الأنظمة إياها وبين الكيان الصهيوني على نحو أشد، وبطريقة ستفاجئ الجميع، وسيعلم أولئك المتآمرون أنهم لن يتمكنوا من تركيعها، ولا حتى تركيع شعوبهم، بل إن فضيحتهم الجديدة ستساهم في تعميق إرادة التغيير بين جماهير الأمة وليس وأدها، لا سيَما أن تلك الأنظمة تضيف إلى سياسة القمع
والفساد في الداخل، سياسة حمقاء خارجية تركّع الأمة أمام ألد أعدائها، وتبيع قضيتها المركزية المقدسة بثمن بخس، أعني قضية فلسطن. ولا شك أن هذه الملحمة الرائعة التي صاغتها حماس والمقاومة في قطاع غزة ستسهم بشكل كبير في صحوة الشعوب، وفي مسيرتها نحو إفشال هذه المؤامرة الرهيبة على حاضرها ومستقبلها.