ربما الأجيال الفتية ممن عاصرت ثورة 2011 وقبلها بسنوات قليلة، لا تربطها وشائج الانتماء لتاريخ سوريا الأبعد وأحداثه التي كانت هي الإرهاصات الأولى، لما يجري الآن، فحصاد ما نعيشه اليوم، هو ما زرعه الطغاة قبل أكثر من نصف قرن، وأقصد بالتحديد منذ أن انقلب حزب البعث على الحياة السياسية، وأدخل سوريا في نفق لم تخرج منه إلى الآن، حيناً بشعار الاشتراكية الماركسية وحيناً آخر بشعار القومية الشوفينية، وحيناً بشعار الممانعة والمقاومة.
لكن الثابت في كل تلك الشعارات المتغيرة، هو وجود آل الأسد في السلطة، الذين قبضوا على الدولة بأظافرهم وأنيابهم وبدؤوا توارثها كبقايا المتاع والثروة.
انقلاب آذار عام 1963
والذي يحلو لأنصار الحزب المنتفعين، إطلاق لقب “ثورة” عليه مع أنه انقلاب عسكري مكتمل الأركان، جاء كحل منقذ لحزب البعث، الذي لم يستطع الوصول للحكم عبر المنافسة وصناديق الاقتراع، رغم شعاراته التي تداعب خيال البسطاء والطبقة المتوسطة، فكان أن قام بهدم كل ما بنته سوريا عبر نضالها المديد ضد المستعمر الفرنسي، وما كرسته من قيم الحرية والديمقراطية والانتخابات، عبر انقلاب عسكري كان نتيجته إلغاء الحرية السياسية والاقتصادية، وقيام دولة الحزب الواحد، وفرض حالة الطوارئ منذ عام 1963 وحتى 2011، التي أُلغيت بضغط مظاهرات الربيع العربي لكن النظام سارع إلى إيجاد بديل له تحت مسمى قانون التظاهر.
أتساءل ما قصة الأنظمة القمعية مع الدساتير؟!
يكرهونها كأنهم لا يريدون أن يلزموا أنفسهم بأي قانون ولو شكلي أمام الناس، وإذا وضعوا الدساتير على مضض، فهم أول من يخرقها ويقدمها علفاً للحيوانات، كما في مسرحية “غربة”، فمجلس ما يسمى “قيادة ثورة الثامن من آذار”، عطّل فور استلامه السلطة العمل بالدستور، ولم يتم وضع دستور جديد حتى عام ،1973عندما فصّل حافظ الأسد دستوراً على مقاسه، كما سيفصّل ابنه بشار لاحقاً دستوراً على مقاسه أيضاً.
ورغم قيام أعضاء المجلس العسكري بالانقلاب والإطاحة بالخصوم، إلا أن بأسهم بينهم كان شديداً أيضاً، فالغدر هو عنوان تلك القيادة، وقد انقلب حافظ الأسد على صديقه صلاح جديد ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي، وسجنهما مع العديد من رفاقهم، فيما يعرف “بالحركة التصحيحية”.
مهزلة أخرى يتعرض له الدستور، لكن هذه المرة بعد وفاة حافظ الأسد عام 2000 ، حيث تم ترفيع ابنه بشار الأسد، وعمره 34 عاماً إلى رتبة فريق بشكل سريع متجاوزاً أربعة رتب عسكرية، ليتم تمكينه من قيادة الجيش، ثم تعديل فقرة من الدستور بربع ساعة تختص بالعمر، ليتم تمكينه من الترشح للرئاسة أيضاً، ثم عين قائداً للجيش في اليوم التالي، وانتخب بعدها أميناً قطرياً لحزب البعث، ورئيساً للجمهورية في 10 تموز 2000 في مشهد عبثي، لا يحدث حتى في أفلام بوليود الهندية، لكن للأسف لاقى هذا الفيلم الترحيب والاستحسان من قبل الساسة الغربيون والعرب، حتى أن وزيرة خارجية أمريكا، مادلين أولبرايت، حضرت مراسم التعزية بموت حافظ، واجتمعت مع بشار الأسد وأثنت عليه.
حتى إذا ظن الجميع أن الشعب السوري فقد الرغبة في الحياة الكريمة، واقتنع بالرضوخ خلال خمسين عاماً من الظلم والقهر والتنكيل واستلاب الحرية السياسية والإنسانية.
وفاجأهم المارد في آذار أيضاً، لكن بوجه آخر نابع هذه المرة من نبض الناس وألمهم، يرفضون الذل ويبشرون بشرارة ثورة الحرية التي أطاحت بكل “التابوهات ” المحظورة، التي وضعها النظام في عقول الناس.
انطلقت الحناجر تهتف بنداء سكتت عنها الأجيال لعقود، تحت وطأة القبضة الأمنية ومجازر الثمانينات الدموية، هتفت بإسقاط النظام ولعن الطواغيت، الذين قدسهم البعث وأبواقه عبر عقود، فكأن غمامة سوداء كانت تجثم على وجه سوريا الجميل، وبعثرتها بثواني رياح طيبة خفيفة، ما لبثت أن اشتدت قوتها حتى أصبحت إعصاراً يقتلع الطغاة ويدمر أحلامهم.
لقد التقطت ثورة الحرية في آذار شرارتها من ثورات الربيع العربي، بصرخة مجموعة صغيرة من المتظاهرين أزالت عقوداً من الظلم والظلمات، التي راكمها انقلاب البعث في آذار المظلم.
محمد مهنا – مقال رأي
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع