لا شك أن تركيا لعبت دورًا كبيرًا في الملف السوري طوال السنوات الماضية، البعض ينظر إليه من وجهة نظر إيجابية ويراه مناصرًا لقضية عموم السوريين، وموقفًا تاريخيًا تتناقله الأجيال، والبعض الآخر يراه سلبيًا إلى درجة كبيرة ويعتبر وقوف تركيا إلى جانب الشعب السوري الذي أصبح ما بين شهيد وجريح ومشرد ولاجئ ونازح أو من بقي يقاوم أدوات القتل المتعددة الجنسيات في سوريا، يعتبر هذا الوقوف بأنه دعم للإرهاب والإرهابيين بمسمياتهم المختلفة.
منذ بداية الثورة السورية سارعت الحكومة التركية إلى توجيه عدة رسائل طالبت فيها “بشار الأسد” بتنفيذ إصلاحات اقتصادية وسياسية كان هو قد تعهد بإجرائها فيما يسمى “بخطاب القسم” عند توريثه السلطة عام 2000. وأرسلت وزير خارجيتها آنذاك “أحمد داود أوغلو” إلى دمشق حاملًا نصائحها لـــ “بشار الأسد” شخصيًا تتضمن الابتعاد عن استخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين، وتلبية مطالب الشعب المشروعة وعدم السير وراء الإيرانيين الذين اقترحوا عليه قمع المظاهرات بالقوة كما فعلوا هم مع احتجاجات عامي 2009-2010 أو ما تسمى بــــ “الثورة الخضراء” في إيران.
لم تفلح الجهود الدبلوماسية التركية المباشرة مع “بشار الأسد” فطرقت أنقرة أبواب طهران عام 2012 وتوسلتهم بالضغط على حليفهم للتجاوب مع مساعيهم لإنهاء الأزمة قبل استفحالها، لكن الغطرسة الإيرانية دفعت الإيرانيين إلى إنكار وجود أزمة سياسية في سوريا معتبرين القضية باختصار عبارة عن وجود مجموعات من التكفيريين واللصوص (الثوار) يجب القضاء عليهم أولًا قبل البدء بأي عملية إصلاحية.
في موازاة ذلك فتحت تركيا حدودها أمام المدنيين الهاربين من آلة القتل وخصصت لهم مخيمات مؤقتة على الحدود وأطلقت عليهم اسم “الضيوف السوريين” كونها كانت تعتقد أن النظام السوري سيرضخ أمام الضغوط الدولية لإنهاء الأزمة وبالتالي فأن فترة بقائهم على الأراضي التركية لن تطول كثيرًا.
كما استضافت “المؤتمر السوري السلمي للتغيير” الذي عقد في مدينة “أنطاليا” في حزيران/ يونيو 2011 بهدف تشكيل هيئة من المعارضة السورية لمخاطبة المجتمع الدولي للضغط على نظام ” الأسد ” وحقن دماء الشعب السوري إلى جانب رسم ملامح مستقبل سوريا.
لم تنجح جميع الجهود التركية والإقليمية وحتى الدولية في وضع حد للأزمة ومع استمرار النظام في استهداف المدنيين وقصف المدن والقرى، وتشكيل الجيش السوري الحر قررت أنقرة تقديم الدعم العسكري واللوجيستي للثوار للدفاع عن أهلهم ومناطقهم بعد أن فقدت الأمل في التوصل إلى أي حل سياسي بوجود ” الأسد” واستمراره بقتل المدنيين وتدمير منازلهم وممتلكاتهم الخاصة.
إدارة تركية مزدوجة
على المستوى الحكومي التركي كانت إدارة الملف السوري موزعة بين وزارة الخارجية وجهاز المخابرات من الناحية السياسية والعسكرية والأمنية، إلى جانب السلطات المحلية في المدن التي يوجد فيها سوريين، إضافة إلى الهيئات والجمعيات العاملة في مجال المساعدة الإنسانية وعلى رأسها منظمتي “AFAD” و”IHH”، في حين تم توقيع بروتوكول مع المفوضية السامية لشؤون اللاجئين لتقديم المشورة للحكومة التركية دون السماح لها بالتعامل المباشر مع ملف اللاجئين السوريين على الأراضي التركية.
وفيما بعد أنشأت الحكومة التركية منصب الوالي المنسق “الكورديناتور” أو ما عرف باسم “والي السوريين” بهدف التغلب على المعوقات الإدارية التي كانت تحول دون تقديم المساعدات للسوريين داخل تركيا وحل المشكلات التي تواجه عمل المنظمات السورية والتنقل عبر الحدود وغيرها…
العقبات التي واجهت الفريق
عانى الفريق التركي المعني بالأزمة السورية من ارتباك واضح في التعامل مع الملفات المتشعبة والعقبات والعوائق التي تعترض عملهم بشكل يومي ابتداءً من ملف اللاجئين والجرحى وإدخال المساعدات الإنسانية والتسلل عبر الحدود والتهريب والتعامل مع المنظمات الأجنبية الداعمة وانتهاء بالتطورات المتسارعة على الأرض وكيفية التأقلم معها، إضافة إلى حاجز اللغة التي كانت تقف عقبة كبيرة أمام التواصل، والفوضى العارمة في أوساط المعارضة السورية وعدم وجود جهة موحدة على المستوى السياسي أو العسكري تساعد الأتراك في تنسيق جهودهم بل أصبح هناك عشرات الجهات السياسية التي تدعي كل منها تمثيل الشعب السوري، وهذا الأمر ينطبق على الفصائل العسكرية، مما انعكس سلبًا على التعامل مع القضية السورية بشكل عام مع تعدد الجهات والفصائل وتعدد الأجندات والولاءات.
بالمقابل وقع الأتراك ضحية لعمليات تدليس وخداع وكذب من قبل بعض الأشخاص والجهات المعارضة السورية بهدف تحقيق مصالح خاصة لهؤلاء الأشخاص أو تلك الجهات وتزويد الأتراك بمعلومات مغلوطة وبعيدة عن الواقع حول كثير من الأمور، وأدى ذلك في نهاية المطاف إلى تقريب جهات وأشخاص سوريين غير مؤهلين سياسيًا أو عسكريًا أو فكريًا لقيادة الثورة وابعاد بل وتهميش جهات وأشخاص آخرين ما انعكس سلبًا وفشلًا على جميع الملفات.
على المستوى العسكري، ارتكبت تركيا أخطاء كبيرة منها ما يتعلق بدعم فصائل هامشية لا تملك أي قوة فعلية على الأرض ومنع أو عرقلة وصول الدعم إلى فصائل أخرى لأسباب معينة.
وربما الخطأ العسكري الأكبر الذي وقع فيه الأتراك هو احتجاز الضباط والعسكريين المنشقين ومنعهم من الانخراط في العمليات العسكرية، ووضعهم في سجون “مخيمات” تتوفر فيها كل أنواع الإعاقة الفكرية والعسكرية والبدنية، وأدت ليس فقط إلى إعاقتهم عن أداء الواجب الذي انشقوا من أجله بل حطمتهم على كافة الصعد مع استمرار منعهم من الخروج من هذه المخيمات لسنوات طوال وأصبحت مراكز احتجاز الضباط أسوة مع المخيمات الأخرى براكين تغلي تحت السطح قابلة للانفجار في أي لحظة، ونعتقد أن ذلك تم تحت ضغوط دولية بذريعة حماية هؤلاء، لكن الأمر مدبر على ما يبدو وأصبح له فيما بعد نتائج كارثية على هؤلاء العسكريين وعلى سير الأمور العسكرية في الجهات في سوريا، وكان الأحرى إعادة تأهيل وتدريب هؤلاء وإخضاعهم لدورات لياقة بدنية بين الفترة والأخرى ليحافظوا على الأقل على بنيتهم العسكرية.
عقبات داخلية تركية
إلى جانب العقبات المتعلقة بتعقيدات الملف السوري واجه الأتراك الكثير من العقبات حالت دون العمل بشكل انسيابي، أهمها وقوف المعارضة التركية في وجه أي تصرف تقوم به حكومة العدالة والتنمية حتى على الصعيد الإنساني ناهيك عن الجوانب السياسية والعسكرية والأمنية وسياسة فتح الحدود أمام اللاجئين، فكانت هناك تيارات ومسؤولين داخل الحكومة التركية يعرقلون وصول أي مساعدات عسكرية للثوار، والحادثة المعروفة بـــ”شاحنات المخابرات” والتي استغلها النظام السوري وحلفاؤه للنيل من تركيا لإلصاق تهمة دعم “المنظمات الإرهابية” في سوريا بحكومة العدالة خير دليل على ذلك.
التحول من الخطوط الحمراء إلى التكيف مع الحقائق على الأرض
اضطرت تركيا أمام الضغوط والعزلة والعمليات الإرهابية التي باتت تهدد أمنها القومي وأمن مواطنيها إلى إحداث تغييرات في سياستها الخارجية تمثلت مؤخراً في المصالحة مع روسيا وإعادة تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني وربما لا يزال هناك الكثير من المفاجآت سنشاهدها خلال الفترة المقبلة خاصة فيما يتعلق بموقفها من الأزمة السورية وربما الملفات الأخرى في مصر والعراق وغيرها.
في هذه الأثناء أشارت بعض المعلومات إلى تغيير بدأ على صعيد الفريق المعني بإدارة الملف السوري في وزارة الخارجية وجهاز المخابرات وسيتم استبدال كامل الفريق وتعيين آخرين مقربين من الرئيس “رجب طيب أردوغان” ويتبنون رؤيته بشكل كامل عوضًا عنهم في إشارة واضحة إلى محاولة حكومة العدالة والتنمية تصحيح بعض الأخطاء التي وقعت بها خلال السنوات الماضية وربما التحول تدريجيًا من سياسة الخطوط الحمراء التي تبنتها خلال ثورات الربيع العربي إلى سياستها المعروفة ما قبل هذه الثورات “صفر مشاكل” والبدء بتصفير المشاكل وتقليل عدد الأعداء والتماهي مع الأطراف الإقليمية والدولية وفتح صفحات جديدة خاصة مع دول الجوار والجوار القريب والتعامل بواقعية مع الملفات التي تهم تركيا دون أن يعني ذلك التوافق التام مع الحلول المطروحة لهذه الأزمات خاصة في الملفين السوري والمصري.
هذا التغيير في النهج السياسي للتكيف مع الحقائق على الأرض يتطلب أشخاص جدد يتبنونه ويسيرون فيه وفق رؤية الحكومة التركية ورؤية الرئيس “أردوغان” شخصيًا ولا نستبعد أن نشهد اتصالات بين مسؤولين أتراك وسوريين خلال الفترة المقبلة ولو على مستوى أمني أو دبلوماسي منخفض خاصة وأن تقارير تحدثت عن وساطة جزائرية (لم ينفها الأتراك أو النظام السوري حتى الآن) لجمع مسؤولين من الطرفين في العاصمة الجزائرية لمناقشة بعض الملفات وعلى رأسها مواجهة المشروع التوسعي الكردي على الحدود بين البلدين، وربما يتعدى ذلك إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية التي تصب في مصلحة الجانبين التركي والسوري.
استراتيجية جديدة
بناء على ما سبق نعتقد أن الفريق التركي الجديد سيكون محور اهتماماته خلال المرحلة المقبلة يختلف إلى حد ما عن اهتمامات سابقه وسيتبع استراتيجية التعامل مع الحقائق على الأرض بشكل أكبر والتركيز على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية استخباراتيًا وعسكريًا وشن حرب استباقية في أماكن انتشار عناصر هذا التنظيم تمنعه من نقل معركته إلى داخل تركيا أو على الأقل منع وقوع الهجمات والتفجيراتالإرهابية في المدن الرئيسية.
كما نعتقد أن الفريق الجديد سيضع استراتيجية جديدة للتعامل مع الملف الكردي في شمال سوريا قد يكون عنوانها “الاحتواء بدلًا من التصادم” تقوم على احتواء الأحزاب الكردية السورية بدلاً عن محاربتها والفصل بينها وبين حزب العمال الكردستاني (PKK) ورفع الحظر التركي على دخوله إلى المفاوضات السورية إلى جانب الهيئة العليا للمفاوضات.
ما المطلوب من الفريق الجديد
– يجب أن يكون الفريق الجديد متجانسًا ومرنًا ويتمتع بديناميكية عالية لجهة وضع الخطط الخاصة بعيدًا عن الخطط الدولية للتعامل مع التطورات المتسارعة وتغييرها في الوقت المناسب.
– العمل على جمع السوريين وتوحيد خطابهم السياسي وتنسيق عملهم العسكري ونبذ الفرقة والابتعاد عن التجاذبات السياسية والقومية والدينية.
– الانفتاح في التعامل مع كافة المكونات السورية والابتعاد عن سياسة التعامل السابقة التي شابتها الكثير من السلبيات وأخذت أحيانًا طابعًا قوميًا، أو دينيًا أحيانًا أخرى وأدت إلى تهميش فئات وخبرات كبيرة من الشعب السوري وهو ما يعكس حالة الفشل التي وصلت إليه مؤسسات المعارضة التي تتخذ من تركيا مقرًا رئيسيًا لها.
– التعامل بواقعية وعقلانية مع الملف السوري والعمل على تجاوز الأخطاء التي ارتكبها المسؤولون السابقون خاصة فيما يتعلق بدعم جهات وفصائل بعينها لأسباب معينة على حساب جهات وأشخاص آخرين قد يختلفون معهم بالرؤية أو التوجه السياسي.
– تكثيف الدعم العسكري واللوجستي للثوار وبالتنسيق مع الدول العربية المعروفة بدعمها للثورة السورية.
– عدم الثقة بالحليف الأمريكي وعدم أخذ وعوده على محمل الجد، وإدراك أن الدور الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط وتجاه تركيا على وجه الخصوص سلبيًا ولن يكون إيجابيًا.
– التعامل بجدية مع المشاكل القانونية والإدارية المتراكمة التي يعاني منها السوريين المقيمين في تركيا وبذل جهود حقيقية لحلها بما يضمن أمن تركيا ويحافظ في الوقت ذاته على كرامة السوريين، إضافة للمشكلات المتعلقة بالتعليم وهجرة الكفاءات وغيرها.
– تنظيم عمل المنظمات الأجنبية الناشطة في أوساط السوريين كون أغلبها تحول لمراكز تجسس أو اختراق لأجهزة مخابرات دولية.
– ضبط المعابر الحدودية على الجانب السوري وتنظيمها والضغط لإسناد عملها لجهات مدنية تعود بالنفع على جميع السوريين.
– حل مشاكل المعابر الحدودية والتجاوزات التي تقع أحيانًا من قبل بعض عناصر حرس الحدود التركية ( الجندرما) تجاه العوائل التي تحاول الدخول إلى الأراضي التركية.
– الاستعانة بمن لديهم خبرة واسعة في الملفات السياسية والعسكرية والأمنية من السوريين والاستفادة من خبراتهم لصالح تركيا والشعب الثورة السورية.
د. وسام الدين العكلة – ترك برس