سمحت موجة الثورات العربية بصعود أصوات انفصالية تسعى إلى إعادة تشكيل الخارطة الجغرافية للمنطقة على أسس عرقية أو طائفية أو مذهبية. وبرزت مطالب انفصالية في كل من العراق وليبيا واليمن وحتى سوريا، وذلك ما يطرح تساؤلا حول مصير اتفاقية سايكس بيكو التي على أساسها رسمت حدود الدول العربية الموجودة حاليا.
وفي هذا الإطار يتنزل كتاب “مئة عام على سايكس – بيكو” لسفير لبنان في تونس بسام عبدالقادر النعماني والذي نبّه إلى ضرورة “عدم الاستكانة إلى ما يقال حول أن اتفاقية سايكس بيكو قد انتهت وبأن هناك خرائط جديدة ترسم للمنطقة تهدف إلى تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ”.
تعصف بالدول العربية على إثر موجة الثورات متغيرات سياسية داخلية جعلت من الحفاظ على حدود الدول الموجودة حاليا شأنا سياديا وذلك بعد بروز أصوات انفصالية تطالب بإعادة تشكيل الخارطة الجغرافية وإعادة رسم الحدود داخل المنطقة الواحدة.
وحذّر صاحب الكتاب من المخططات الخارجية التي تحاك ضدّ المنطقة العربية والدخول باتفاقية سايكس بيكو في مرحلة جديدة للمزيد من “تجزئة المجزأ” وذلك بعد “قرب اضمحلال الأقاليم الموجودة حاليا”.
وأشار الكتاب إلى مراحل بلورة الاتفاقية النهائية لسايكس بيكو والتي سبقها صراع نفوذ فرنسي بريطاني على التقسيم الجغرافي للمنطقة قبل منح الاستقلال للدول المزمع تكوينها في ما بعد.
وأوضح الكتاب أن اتفاقية سايكس بيكو المعلنة سنة 1916 قد خضعت إلى العديد من التغييرات وإعادة تشكيل الحدود المفترضة للدول العربية وذلك بناءا على المتغيرات “السياسية والمعطيات على أرض الواقع”.
وتنص الاتفاقية التي أبرمت بين فرنسا وبريطانيا ووافقت روسيا القيصرية عليها قبل الانسحاب في نسختها النهائية على تقسيم الشام إلى ثلاث مناطق؛ المنطقة (أ) الزرقاء وهي العراق وتخضع للإدارة البريطانية والمنطقة الحمراء (ب) وهي سوريا وتخضع للسيادة الفرنسية أما المنطقة السمراء (فلسطين) فتخضع لإدارة دولية.
المفارقة أن حركات التحرر وقادة دول الاستقلال في المنطقة العربية، قد ندّدوا باتفاقية سايكس بيكو وأعلنوا رفضهم لها وعدم التزامهم ببنودها في بادئ الأمر إلا أن التنديد بالاتفاقية بدأ يتلاشى مع الانشغال ببناء الدولة القومية وتركيز مؤسسات الحكم.
ومع ظهور أصوات الانفصالية خاصة على إثر الثورات العربية والتي تطالب باستقلال أقاليم عن سيادة الدول المركزية، أصبح مشروع التصدي لما سمي باتفاقية سايكس بيكو جديدة جزءا من الأمن القومي العربي.
فبعد أن كان العرب يرفضون اتفاقية سايكس بيكو التي وقعت في1916أصبح همّهم اليوم المحافظة على تلك الاتفاقية وإبقاء الحال على ما هو عليه خشية المزيد من التقسيم للجغرافيا العربية التي لم تعد تحتمل تجزيئا لما هو مجزّأ.
ضرورة فهم مقاربة الدول الكبرى في المنطقة العربية
ويرى صاحب الكتاب أن التصدي “لمؤامرات تقسيم المقسم وتفتيت المفتت” يستوجب الاطلاع على أرشيف الدول الكبرى وخرائط التقسيم التي بحوزتها “من أجل فهم المقاربة التي تمّ على أساسها تقسيم المنطقة العربية سنة 1917”.
ودعا النعماني إلى ضرورة “المطالبة بالاطلاع على أرشيف الدول الكبرى وخرائط التقسيم” من أجل فهم المقاربة التي بنيت عليها اتفاقية سايكس بيكو باعتبار أن “مؤامرات التقسيم الجديدة تعتمد نفس المقاربة التي بنيت على أساسها اتفاقية سايكس بيكو”.
وأشار الكاتب في معرض سرده للسيرورة التاريخية لاتفاقية سايكس بيكو أن أسرار هاته الاتفاقية وخفاياها كشفت لأول مرّة بعد 45 سنة من إمضائها.
ومن هنا تأتي أهمية دعوة الكاتب إلى عدم انتظار ما وصفه بـ”تقسيم المقسم” داخل الجغرافيا العربية من أجل التحرك ومواجهة المؤامرة بل يجب استباق واستشراف المتغيرات العالمية انطلاقا من خفايا المقاربة التي بنيت عليها اتفاقية سايكس بيكو.
ويعتبر مطلب انفصال إقليم كردستان العراق أحد أبرز التحديات التي تواجهها المنطقة العربية باعتبار أنه سيفتح باب الحركات الانفصالية عن الدول القومية في صورة تحقيقه.
إن مطلب استقلال إقليم كردستان عن العراق مطلب قديم جديد تضافرت عدة معطيات إقليمية من أجل إعادة ظهوره إلى الواجهة بعد أن تصدى الرئيس السابق صدام حسين لمطالب الأكراد الانفصالية بمنحهم الحكم الذاتي تحت السيادة العراقية.
ولا تمثل دعوات استقلال إقليم كردستان مطلبا شعبيا ولا تحظى بدعم جميع أفراد القومية الكردية بقدر ما هي دعوات تذكيها وتؤججها قوى خارجية من أجل حماية مصالحها في المنطقة.
ووفرت القوى المتصارعة على النفوذ في المنطقة الدعم السياسي وحتى المالي والعسكري للانفصاليين، وما انفكت تدعم مطالبهم في الهيئات والمنظمات الدولية تحت يافطة حق تقرير المصير.
وأفرزت الثورات العربية حسب العديد من الدراسات واقعا جديدا تخطى المطالبة بإسقاط دولة الاستبداد إلى المطالبة بالانفصال وتغيير خارطة الحدود الجغرافية لدولة الاستقلال. وتهدف بعض التنظيمات الانفصالية المدعومة من قوى خارجية إلى المزيد من تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ وذلك من أجل إعادة تشكيل خارطة النفوذ في المنطقة وحماية مصالح من يساند مطالبها ويدعمها سياسيا وماليا.
فبعد أن كانت كل الدول العربية ترفض ما أفضت إليه معاهدة سايكس بيكو من تقسيم للحدود، أصبح العالم العربي اليوم يسعى إلى المحافظة على ذلك التقسيم الذي كان يوصف بالتقسيم الاستعماري. وتتجلى خشية الدول العربية من المزيد من التفكك والتفتيت على مستوى القوانين التي سنّت إثر الثورات.
ففي العراق مثلا نجد فصلا في دستورها الجديد ينص على ضرورة الحفاظ على وحدة العراق وذلك في خطوة يعتبرها العديد من المحللين استباقية من أجل الحيلولة دون تنفيذ الأجندات الخارجية والمطالب الانفصالية. ويعتمد القادة العراقيون على هذا الفصل الدستوري في مواجهة المطالب الانفصالية للأكراد الذين يطالبون بانفصال إقليم كردستان عن دولة العراق وإعلان دولتهم المستقلة.
وتشتغل بعض القوى الإقليمية والخارجية على إذكاء النعرات الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية كمنطلق لشرعنة مطالب الانفصال وإيجاد مرجعية لتبريرها كاللعب على مصطلحات الأقليات العرقية والدينية المضطهدة من قبل الأغلبية الحاكمة. وتتحدث تقارير إعلامية عن خارطة جغرافية جديدة للمنطقة العربية تتمثل في إقامة دولة كردية على الحدود السورية العراقية إضافة إلى دولة شيعية للإمامة الزيدية في اليمن ودولة أمازيغية في شمال أفريقيا.
ومثل التنظيم داعش تهديدا للدول الوطنية لأنه لا يعترف بهاته الدول ويطمح إلى استدعاء كيانات سياسية من التاريخ ممثلة في “دولة الخلافة”. وحاول التنظيم المتطرف الذي هزم على أيادي القوى الوطنية إنشاء “كيانه” على محور الموصل/الرقة وذلك في محاولة لإعادة تشكيل خارطة الحدود بالمنطقة.
ووفر التنظيم المتطرف الذي يستند إلى منطلقات تاريخية متشدّدة حاضنة لبروز مطالب الانفصال في العديد من المناطق على أسس ومرجعيات ذات صبغة دينية. والأمر أيضا سواء بالنسبة إلى دولة اليمن والتي يسعى فيها المتمردون الحوثيون إلى تأسيس دولة شيعية استنادا إلى ما يعرف بالإمامة الزيدية.
العرب _ حلمي الهمامي