عندما انقشع الغبار ببطء بعد محاولة انقلاب 15 تموز/ يوليو في تركيا، الذي أسفر عن مقتل نحو 300 شخصًا، وجرح أكثر من 2000 شخصًا، فمن الواضح أن السياسة التركية ستبقى في حالة تغير مستمر لبعض الوقت في المستقبل. ربما جاء 15 يوليو كلحظة حاسمة في تاريخ تركيا المعاصر، ولكن هل يمكن أيضا أن يكون بالنسبة لسوريا؟
للوهلة الأولى، لا يبدو ما جرى على اتصال مباشر بين المسألتين. لكن ربما تلعب آثار الانقلاب الفاشل أن في العديد من الطرق المختلفة والمتناقضة بالنسبة لسوريا، حيث كانت حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ فترة طويلة من أشد المؤيدين الصقور للعصيان السني الذي يقوده الإسلاميون ضد الحكومة السلطوية للرئيس بشار الأسد. فحتى تحولاً طفيفاً في سياسة أنقرة تجاه سوريا قد يكون لها عواقب كبيرة للحرب- ولو تمت الإطاحة بأردوغان، فإنه يمكن أن تكون بسهولة لحظة تغيير قواعد اللعبة في مسار الصراع. عندما ظهرت أخبار الانقلاب أولًا، أُطلقَ النار ابتهاجا في دمشق وعدة مدن أخرى، على الرغم من أن ذلك الهتافات والرصاص ضاع سدًا.
كانت سوريا في ذهن صناع القرار في أنقرة لبعض الوقت. ورأى كثيرون أن سياسة تركيا بشان سوريا قد وصلت إلى طريق مسدود، مع فشل العصيان في الاندماج في بديل للأسد ذي مصداقية. فقد أضعفت وأربكت انتصارات الجيش السوري في الآونة الأخيرة حول حلب ودمشق من معنويات الثوار. بالإضافة إلى ذلك، فقد أصبح الارتفاع المطرد للجماعات الكردية السورية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني مصدر قلق كبير للمسؤولين الأتراك، وخلص البعض بأن هذا سيعجل من إعادة تقويم لسياسة أردوغان في سوريا.
ومع ذلك، ليس هناك تغييرًا ملحوظًا، ومن المستحيل القول فيما إذا ستسرع محاولة انقلاب أو تعوق هذه العملية. لكن ربما لا تزال آثار الانقلاب على التحالفات الخارجية والسياسة الداخلية في تركيا تؤثر على طريقة أنقرة في مقاربة المعضلة السورية.
أردوغان أقوى، ولكن تركيا أضعف؟
يبدو أن الرئيس التركي قد خرج من الأزمة أقوى من ذي قبل، والآن يقود عملية تطهير واسعة النطاق للقوات المسلحة والخدمة المدنية. بعد الإعلان عن حالة طوارئ لمدة ثلاث أشهر، اعتقلت الحكومة أو طردت عدة آلاف من المعارضين المشتبه بهم، بينهم ضباط في الجيش وغيرهم من أفراد الأمن. كما يجري استهداف لصحفيين، وفي وقت سابق من هذا الاسبوع تم إغلاق 16 قناة تلفزيونية و23 محطة إذاعية، و45 صحيفة، و29 دار نشر بقرار حكومي. يخشى كثير من نقاد أردوغان من أن الرئيس قد قام فعليا في انقلاب مضاد من تلقاء نفسه، في محاولة لسحق كل مقاومة ذات معنى لحكمه تحت غطاء تطهير شرعي للمتآمرين العسكريين.
يستخدم أردوغان بالفعل الانقلاب لتعزيز هدفه السياسي المهيمن؛ لتغيير الدستور وتركيز السلطة في يد الرئاسة. قُوبِلَت محاولاته السابقة المتكررة لإعادة كتابة الدستور بمقاومة قوية من المعارضة، التي اتهمت أردوغان بالسعي لتحويل تركيا إلى دكتاتورية. ولكن رئيس الوزراء بن علي يلديريم يدعي الآن أن معظم الأحزاب السياسية في تركيا على استعداد للانضمام الى عملية إعادة صياغة الدستور بعد الانقلاب.
ومع ذلك، لا يعني أردوغان أقوى بالضرورة تركيا أقوى. فقد يضعف الوضع السياسي المتوتر والحجم الهائل للتطهير الحكومة ويجعلها أقل قدرة على تعزيز مصالحها في سوريا بشكل فعال. إذا كان الأمر كذلك، قد تضطر أنقرة لتوسيع لخفض مشاركتها إلى مستويات أكثر قابلية للإدارة أو تسلم النفوذ للحلفاء الذين لا يشاركونها أهدافها بشكل كامل. ثم مرة أخرى، يمكن لوجود جهاز عسكري وصنع سياسات أقل استقراراً، ورقابة أقل لحكومة مركزية مشغولة جداً، أيضاً أن يترجم إلى مزيد من السياسات المتهورة في سوريا. مع ورود تقارير من اشتباكات طائفية بين السنة والعلويين في تركيا والاضطرابات في العديد من المجالات، وكذلك المتطرفين الجهاديين في سوريا الذين يضرون أهداف تركية، هناك أيضاً خطر بأنه يمكن للاجئين السوريين أن تصبحوا محاصرين في أعقاب الانقلاب.
الاستمرار في اصلاح العلاقات مع روسيا
تعتمد خيارات أردوغان في سوريا على تحالفات أنقرة الإقليمية والدولية. في الأشهر التي سبقت الانتفاضة (الانقلاب) العسكري، كان قد بدأ أردوغان بمراجعة سياسته الخارجية من أجل الخروج من العزلة الدولية المتزايدة. وشمل هذا إعادة تفعيل علاقاته مع إسرائيل، والسعي إلى تحسين العلاقات مع روسيا من أجل المعضلة السورية.
كانت العلاقات التركية-الروسية قد توترت بسبب القضية السورية، عندما أسقطت القوات الجوية التركية الطائرة الروسية سيخاوي 24، التي دخلت المجال الجوي التركي في 15 تشرين الثاني 2015. هذا ما دفع إلى رد روسي غاضب، بما في ذلك فرض عقوبات اقتصادية. ومع ذلك، بعد نحو ستة أشهر من العداء المتبادل، اعتذرت تركيا إلى روسيا، مما أدى إلى رفع بعض العقوبات. في 1 تموز/ يوليو، اجتمع وزراء الخارجية سيرجي لافروف وميفلوت في سوتشي، حيث تباحثا في الشأن السور وفي أمور أخرى،. سعت موسكو، منذ ذلك الحين، إلى استخدام الانفتاح الدبلوماسي لتحفيذ التحول في سياسة أنقرة تجاه سوريا، رغم أن أردوغان لم يُظهِر حتى الآن أي مؤشر على الرغبة في انهاء معارضته للأسد.
بعد أيام قليلة من محاولة انقلاب، أكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف أن تطور العلاقات الروسية-التركية “سيعتمد على كيفية تعاوننا بشأن تسوية الأزمة السورية”. لم يستجب المسؤولين الأتراك حتى الآن لهذه الضغوط، لكنهم أبدوا رغبتهم في مواصلة تحسين العلاقات مع موسكو. بعد فترة وجيزة من إحباط الانقلاب، انتهز نائب رئيس الوزراء محمد شيمشك الفرصة لإلقاء اللوم على إسقاط الطائرة سوخاوي 24 على عناصر مضادة للأردوغان. كما أشاد CAVUSOGLU مؤخرا “بدعم روسيا غير المشروط” بعد محاولة الانقلاب. وبعبارة أخرى، من المتوقع أن تستمر المناقشات الروسية التركية بشأن سوريا.
كيف سترد واشنطن؟
يبدو أن علاقة تركيا والولايات المتحدة – التي هي حليف عسكري أساسي في حلف شمال الأطلسي – قد توترت نتيجة للانقلاب. أحد الأسباب هو أن الحكومة التركية قد اتهمت المفكر الإسلامي فتح الله غولن، الذي يعيش في ولاية بنسلفانيا، بأنه العقل المدبر للانقلاب. في حين أنه لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت تركيا قد أصدرت طلب رسمي لتسليم غولين، حيث تثير القضية بالفعل توترات بين الطرفين.
لدى الولايات المتحدة وتركيا خلافات واضحة حول السياسات الدبلوماسية المتبعة في سوريا وفي دعم جماعات المعارضة. ومع ذلك، كانوا قادرين على احتواء هذه الخلافات والعمل معاً بشكل وثيق على مدى السنوات الخمس الماضية. لن تغير محاولة الانقلاب ذلك، ولكن يبدو أن عدم الاستقرار الواضح في تركيا وقمع أردوغان المستمر يسبب قلقاً بالغاً في الولايات المتحدة. لن يجني أردوغان أصدقاء في واشنطن من خلال تحوله نحو السلطوية التي يقودها الإسلاميون، ويمكن للمزيد من التعقيدات في العلاقة الأميركية-التركية أن تترجم بسهولة إلى انقسامات جديدة بشأن سوريا.
لا يزال لدى واشنطن حافزاً قوياً للحفاظ على علاقات طيبة مع أردوغان، حيث تكون تركيا الوسيط الذي لا غنى عنه للنفوذ الأميركي في سوريا، والأهم من ذلك، بمثابة حجر الزاوية في بنية الأمن الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة. وقد أعرب عن هذا الرأي بوضوح جيمس ستافريديس زاي، وهو جنرال متقاعد من الولايات المتحدة الذي شغل منصب القائد الأعلى للناتو 2009-2013 (وكان يعتبر مساعداً محتملاً لمرشحة الرئاسة الأمريكية هيلاري كلينتون). نشر ستافريديس مؤخراً مقالاً في الفورين بوليسي يناقش فيه أن على الولايات المتحدة أن تقف على أهبة الاستعداد لمواجهة “تأثير سلبي قوي على قدرة الجيش التركي في أداء واجباته”، من خلال تعزيز التحالف مع أنقرة والدعم العلني لحكومة أردوغان المنتخب ديمقراطياً. اقترح ستافريديس أيضا أنه ينبغي على الولايات المتحدة أن تكون أكثر “دعماً للمواقف التركية بشأن كيفية التعامل مع تنظيم الدولة الإسلامية ونظام بشار الأسد”، وزيادة الدعم الأمريكي في حرب تركيا ضد حزب العمال الكردستاني.
وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة تعتمد بشكل كبير على الجماعات المرتبطة بحزب العمال الكردستاني في شمال سوريا، يمكن أن يكون لمثل هذه التنازلات لأنقرة آثار ليس فقط على دور تركيا في سوريا، ولكن أيضاً على دور الولايات المتحدة في سوريا.
الفرز من خلال فوضى ما بعد انقلاب
السبب في مخاوف ستافريديس واضح: الحفاظ على قيادة عسكرية تركية قوية ومتعاطفة هو مصلحة أمنية أساسية للولايات المتحدة. بعد الانقلاب، تم إغلاق القاعدة الجوية مؤقتاً في قاعدة إنجرليك- التي تقلع منها العديد من الطلعات الجوية للولايات المتحدة ودول أخرى ضد المتطرفين الجهاديين في شمال سوريا، والتي تضم جزءاً من الترسانة النووية الأمريكية. كمقياس لمدى عمق التطهير في المؤسسة الأمنية، على ما يبدو ألغى أردوغان حرسه الرئاسي، بينما اتهم نحو ثلث من الجنرالات والأدميرالات في البلاد بالضلوع في المؤامرة.
وقال أردوغان متحدثاً الى رويترز يوم 23 يوليو/ تموز أنه قد كلف بالفعل حكومته بإعادة تنظيم الجيش: “كلهم يعملون معاً [وذلك لتحديد] ما يمكن القيام به، و … في غضون فترة قصيرة جداً من الزمن ستظهر بنية جديدة. ومن خلال هذه البنية الجديدة، أعتقد أن القوات المسلحة تحصل على دماء جديدة”.
خسارة هذا الجزء كبير من كبار الضباط من شأنه أن يقذف أي جيش في الفوضى. حكومة متورطة في حرب أهلية مع حزب العمال الكردستاني وحرب بالوكالة ضد الأسد في سوريا، وكونها أيضاً مستهدفة من هجمات جهادية، يمكن أن تكون منهكة تماماً. وكمثال على القضايا المطروحة، أبرز القادة العسكريين المعتقلين لتورطهم في المؤامرة ضد أردوغان كان الجنرال آدم هودوتي، الذي جيشه الثاني مسؤولة عن الحدود مع سوريا والعراق وإيران. كيف سيؤثر اعتقال الجنرال آدم على قدرة تركيا في القيام بدوريات في هذه الحدود، وأداء الجيش في الصراع مع حزب العمال الكردستاني، وقدرة أنقرة على تشكيل الوضع في شمال سوريا؟
حتى لو قررت الحكومة التركية بمواصلة مسارها، فإنها يمكن أن تصبح ضعيقة ومنشغلة باضطرابات داخلية وعمليات تطهير، مما سيضطرها إلى اغلاق عيونها عن الحرب في سوريا في لحظة حاسمة. وعندما تتغير السياسة الداخلية التركية وبنية النخبة الحاكمة في البلاد، سيكون لهذا بالتأكيد آثار طويلة الأجل على عملية صنع القرار، وعلى الكيفية التي ترى من خلالها الحكومة المصالح الوطنية التركية. وفي الوقت نفسه، يمكن للانقلاب أن يؤثر على كيف توازن تركيا التزاماتها تجاه الجهات الأخرى المشاركة في الحرب السورية، بما في ذلك روسيا والولايات المتحدة.
ولكن الآن، الشيء الوحيد الذي يبدو مؤكدًا هو أنه بينما تتغير تركيا، فطبيعة مشاركتها في سوريا من المرجح أن تتغير أيضاً. ويمكن لهذا أن يكون مسألة حياة أو موت بالنسبة للكثيرين في سوريا.
آرون لاند – مؤسسة كارنيغي للسلام العالمي – ترجمة وتحرير ترك برس