إنه وقت الغداء في واحد من أكبر مراكز المؤتمرات في مدينة لندن، حيث توجد على المائدة المقبلات والمكسرات، وأحد أنواع الخمر الأبيض زهيد الثمن.
تخوض العشرات من الشركات محادثات عميقة متغافلة عن الشخص المتواجد في وسطها. شخص أنيق يرتدي بدلة زرقاء داكنة، بقميص مفتوح الرقبة وحذاء ملون، إنه جيمي ويلز مؤسس ويكيبيديا، ورغم ذلك يبدو أنه لا يثير اهتمام أي كان من الحضور. قد يكون مخطئا بارتدائه لبدلة يوجد مثلها حوالي 40 أو 50 في القاعة في ذاك اليوم.
مع ذلك، يبقى ويلز شخصا مجهول الهوية على رأس واحدة من الشركات المؤثرة وإن كانت مستنسخة. وهو أحد رواد شركات الإنترنت، الذي سبقت جهوده غوغل وفيسبوك ويوتيوب. بالطبع، إنه مؤسس ويكيبيديا.
وتصنف الموسوعة الإلكترونية ويكيبيديا كخامس المواقع الأكثر شعبية في العالم، بمعدل يصل إلى 15 مليار زيارة شهريا، واحتفلت مؤخرا بذكرى مرور 15 عاما على تأسيسها، وهو ما يجعلها من الشركات المتقدمة في السن. وهذا يعني أن جيلا بأكمله قد فاتته متعة المكتبات والبحوث التي تستند على تصفح الكتب.
على ويكيبيديا 38 مليون صفحة تم إنشاؤها من طرف جيش قوامه 80 ألف شخص من مساهمين متطوعين ومحررين يعملون على المحافظة على صفحات ويكيبيديا وتحديثها.
حضر ويلز بمركز المؤتمرات من أجل الحديث عن مشروعه الجديد “ذي بيبلز أوبريتور”، تب.بي. أو “مُشغل الناس” (TPO)، ويتمثل مشروعه في مشغل شبكة جوال افتراضية مشابهة لشركة giffgaff “غيف غاف” والتي سوف تستعين بالمانحين من المجتمع والمساعدين والمتفاعلين، وذلك لأن 10 في المئة من الأرباح سوف تذهب إلى دعم إحدى القضايا التي يختارها المشاركون، في حين سوف يتم التبرع بنسبة 25 في المئة من أرباح الشركة إلى إحدى الجمعيات الخيرية.
أسس هذا المشروع كل من توم كاتريدج، مارك ابشتاين وأندرو روزنفيلد. ويُعرف روزنفيلد في الأوساط المدنية بأنه مؤسس الشركة العقارية “مينرفا”.
وشارك ويلز في “تي.بي.أو” بعد لقاء في إطار نشاط اجتماعي جمع بين الرجلين. وقد انضم إلى هيئة المشروع في عام 2014، على أنه شريك في رئاسة الإدارة، وقد استرعت فكرة مشروع تجاري ذي بعد اجتماعي اهتمام ويلز.
ومن الممكن أن يكون مشروع “تي.بي.أو” سخيا، لأنه لا ينفق الملايين على الإعلانات والتسويق كل عام، وبدلا من ذلك، هو يعتمد على طريقة التسويق القديم، التسويق عبر ما تتناقله الألسن.
ومع ذلك، بالاستعانة بشبكات التواصل الاجتماعي، مشاريع مثل “تي.بي.أو” أمامها فرصة للنمو بشكل سريع جدا. يقول ويلز إن “التسويق عبر ما تتناقله الألسن (الشفوي) بين الزبائن أقوى من أي وقت مضى”.
وأضاف “إذا فكرت في ذلك قبل 40 عاما، وأحببت شيئا، سوف تخبر على الأغلب خمسة أشخاص. اليوم إذا أحببت شيئا شاركته على فيسبوك، والشخص العادي لديه معدل 314 صديقا على فيسبوك. لذلك قدرة الشركات على التسويق دون الإنفاق على إعلانات التلفزيون، تعتبر أقوى في هذه الأيام. لذلك، فكرنا في العملاء الذين يريدون دعم مدارسهم أو كنائسهم أو أي شيء يمكن أن ندعمه، وهذا حقيقة كل الأمر”.
لا شك أن ويلز يتمتع بنوع من الإيثار، ولكن هذا العمل هو مصدر للدخل أيضا. على خلاف مؤسسي غوغل لاري بايج وسيرجي برين، أو مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ، لا يعتبر ويلز من أولئك الذين يكسبون المليارات عبر الإنترنت.
في الحقيقة، تشير بعض التقارير إلى أن القيمة الصافية لأرباح ويلز (49 عاما) تقدر بنحو 1 مليون دولار (685 ألف يورو).
ومن الملاحظ أن ويكيبيديا ليست موقعا يهدف إلى الربح ويعتمد على التبرعات، وكذلك على جيش من المحررين المتطوعين، وبالتالي فهو ليس آلة لصنع المال مثل أمازون لجيف بيزوس، ولم يخضع للاكتتاب العام في سوق الأسهم، مثل تويتر أو علي بابا.
المشروع الدعائي لويلز هو ويكيا، وهي خدمة استضافة مجانية. وهو موقع مشهور ومصنف في المرتبة الـ98 وفقا لتصنيف ألكسيا، الموقع المتخصص في تحليل وتصنيف المواقع الإلكترونية. لكن لا يمكن تقدير أرباح ويكيا بما أنها شركة خاصة ولا تنشر أرباحها المالية.
يعتبر ويلز الذي ولد في مدينة هانتسفيل بولاية ألاباما الأميركية، أن لندن هي موطنه، وبما أنه اعتاد السفر إلى فلوريدا، حيث تقيم ابنته من زوجته السابقة، فإن سان فرانسيسكو هي موطن تأسيس ويكيبيديا.
ويلز هو زوج كيت غارفي، التي عملت في السابق أمينة مذكرات توني بلير عندما شغل منصب رئيس للوزراء، والتي توجهت بعد مغادرتها لمبنى الحكومة في شارع “تين داونينغ ستريت” إلى العمل في مجال العلاقات العامة.
يصف ويلز زوجته، غارفي، بأنها “أكثر امرأة لديها علاقات في لندن”. الزوجان لديهما طفلان صغيران، تتراوح أعمارهما بين سنتين ونصف السنة وأربع سنوات، وتعيش الأسرة في نوتينغ هيل، وهي إحدى الضواحي الراقية في غرب لندن، والتي كانت موطنا لرئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون وعائلته.
يقع مقر شركة “تي.بي.يو” في شورديتش، وهي منطقة في شرق لندن، تستقر بها شركات التكنولوجيا الواعدة في بريطانيا.
وقد تعززت مسيرة ويلز في الآونة الأخيرة عندما أصبح مديرا مستقلا لمجموعة “الغارديان” للإعلام، كما أنه شارك بشكل منتظم في المنتدى الاقتصادي العالمي، ويحضر أيضا في منتجع دافوس السويسري حيث رؤساء الدول وصناع القرار.
لا شك أن ويلز أحسن الاختيار بعد أن استمع إلى نصائح السياسيين حول الضرائب التي تدفعها الشركات الناشطة في مجال الإنترنت على الاستقرار في المملكة المتحدة. وقال “إنها سياسة عامة تجعل من الشركات لا تدفع الضرائب. هذا ليس عدلا، أشعر أن معاقبة الشركات على أنها تتبع القانون هي نوع من التضليل. علينا أن نطلب من السياسيين أن يجدوا حلا لهذه المشكلة”.
وأضاف “يبدو أن الوقت قد حان للتركيز على تلك المسألة، التي بدأت تتحول بشكل متزايد لتصبح من القضايا الملحة. إذا أصبح رجال الأعمال المستقرون في بريطانيا في وضع غير مشجع لإقامة مشاريع في إطار التجارة العالمية، فإن ذلك ليس في صالح بريطانيا، هذا ليس عدلا بالنسبة إلى أي كان”.
من الغريب التوجه بالسؤال إلى أحد الرواد المؤسسين لشركات الإنترنت عما هو قادم في مجال الابتكارات لأن الجواب بلا شك سوف يكون: الهاتف المحمول، ذلك الجهاز الذي لا يمكن التخلي عنه.
وأوضح ويلز “بالنسبة إلي، أكثر الأشياء إثارة للإعجاب هو هاتف ذكي بثمن زهيد. أعتقد أنه سوف يكون لذلك تأثير كبير على العالم، وخاصة العالم النامي. يوجد في العالم النامي أشخاص يتصلون بشبكة الإنترنت باستخدام الهاتف الجوال للمرة الأولى. في ثقافات ومجتمعات تشكو صعوبة النفاذ إلى المعلومات، أعتقد أنه أمر رائع أن يكون العالم بأسره فجأة في متناولهم”.
وبسؤاله عن مستقبل ويكيبيديا، أجاب ويلز “أنا دائما متفائل، لذلك فأنا أميل إلى الاعتقاد بأن كل شيء سوف يكون على ما يرام. أتذكر الأيام الأولى التي كنت أبحث فيها عن قائمة أفضل 100 موقع، وكانت مواقع لها نفس أسلوب ويكيبيديا تحتل المرتبة 50 في القائمة. وكنت أعتقد أننا إذا ما قمنا بعمل جيد فربما نستطيع أن نصل إلى قائمة أفضل 100 موقع إلكتروني. أما الآن فويكيبيديا هي خامس أكثر المواقع شعبية في العالم”.
العرب