بقلم المعتقلة آيات أحمد
في عتمة ضمائر هذا العالم الموحل، في مستنقع دمائنا..
لا يمكن أن أنسى تلك الليلة الباردة في زنزانة موحشة في سجن من سجون نظام الأسد، لأن الوقائع أشد إيلاما من الخيال…
لم يكن في الزنزانة غير أنا ومنال، وفي عتمة متواصلة لم نكن نعلم فيها توقيت الساعة، لم نكن نعرف غير تعاقب الليل والنهار..
كان البرد قارسا، ولا يوجد في الزنزانة سوى غطائين، لا يردان عن جسدينا مسامير الصقيع، كما لم أستطع منع ذاكرتي من الاحتفاظ بالخطوط المرسومة والمكتوبة على جدران الزنزانة، وأنا أرتجف وأتجمد حتى لم يبق ما أستطيع تحريكه من جسدي غير شفتي، حتى أنفي لم يعد يلتقط رائحة العفونة والرطوبة، التي تشبعت بها رئتي في الأيام الماضية..
و منال.. تلك الفتاة المحفورة في ذاكرتي، بشعرها البني وبشرتها البيضاء حتى كنت أشعر بأنها تضيء عتمة الزنزانة، رغم قوتها، إلا أنها كانت ترتجف من البرد أكثر مني..
وعندما زاد صليل البرد في عظامنا، قمنا نطرق باب الزنزانة، حتى يحضر الحراس، صرنا نطرق الباب بأقدامنا، حتى حضر الحارسين المناوبين في تلك الليلة..
كان واحد منهما أضخم من الآخر وأشرس، وعلائم الإجرام والوحشية في وجهه، ورائحة الخمر تفوح منهما بشكل مقرف، والثمل يتحكم بتصرفاتهما…
وما إن صارا أمام الباب حتى انهالا علينا بأقذر الشتائم…
قلت له : نريد أغطية، فالبرد قارس وقد تجمدت أطرافنا..
فصارا يستهزئا بنا وبما نقاسيه من الصقيع، وأنا لم أستطع الرد بعد أن تجمدت تماما، وشفتاي لا تتحرك إلا بعد معاناة..
لكن منال استجمعت قواها وانتفضت في وجه الحارس وصرخت : برد يا عرصا اااا..
وبعد أن فتح الحارس الباب هجم عليها السجان الضخم، ليوقعها على الأرض، وتهجم عليها وانبطح فوقها محاولا اغتصابها وهي تمنعه عنها وتدفعه بيديها ورجليها، وتصرخ وانا أصرخ، ولكن الذئب لا يفلت الفريسة بسهولة..
تركها ووقف الحارس الثاني في باب زنزانتنا حتى ذهب الذئب الضخم، وأحضر الدولاب، فقيدوني من يدي ورموني في زاوية الزنزانة، أما منال صاحبة الشعر البني، والوجه الملائكي، وضعوها في الدولاب، وقف الذئب الأصغر في باب الزنزانة، والذئب الضخم يتفرس في وجه منال وهي تصرخ، حتى المعتقلين الرجال في الزنزانة القريبة كان صراخهم يعلو مع صراخها وهم يضربون الباب والجدران، لكن لم يكن هناك ما يمنع السجان الضخم من ما يدور في خلده..
أمسكها وهي في الدولاب مشلولة أطرافها وقلبها للوراء حتى صار ظهرها على الأرض وقدماها في الأعلى، ونزع عنها بنطالها بما يسمح له باغتصابها، واعتدى عليها، لم يكترث بصراخها وصراخي، ولا بصراخ وقرع الباب والجدران في الزنزانة القريبة، كان يستلذ بساديته باغتصابها حتى سال الدم منها وروى وحشيته من روحها ونال من ذاكرتي التي حفظت تفاصيل تلك الليلة، في المكان الذي لا يقبل النسيان…
رغم محاولاتي بضرب رأسي بجدار الزنزانة إلا أنني لم أستطع منعه، ولم أستطع منع ذاكرتي من الحفظ..
سكتت منال فوق جرحها، وفوق جرحنا كلنا، ثم نزع الدولاب عنها وقيدها ورماها بجانبي وهي تنزف بكل برود ووحشية…
لم نستطع النوم ليلتها، ولم نستطع الكلام، بقينا نأن بعيون مفتوحة والدموع متجمدة في المآقي، وأفواهنا نسيت كيف تتكلم…
في الصباح، وعندما حضر مدير السجن وسأل عن ما حدث، أجابه السجان الضخم، بأن السجناء قاموا بأعمال شغب وضبطنا الوضع…
أما صديقتي الملاك منال كان قد ساء وضعها الصحي من شدة النزف في هذا الصقيع، حتى صارت تهذي من الحرارة، فأخذوها إلى المشفى كما قالوا لي، ولكن لم أراها بعد ذلك الصباح..
منال.. لم ولن أنسى صاحبة الشعر البني والبشرة البيضاء وكيف كان وجهها الملائكي يحمر كلما اشتد غيظها..
لن أنساك…..
آيات..
من أرشيف الذاكرة العتيقة