تحتوي مدينة إدلب على (9) حدائق عامة، كانت في الماضي ملجأً للعائلات التي تمضي معظم وقتها في شققها السكنية التي يسميها بعض القرويين “علب الكبريت”؛ لعدم وجود منافذ جيدة من حيث التهوية والإضاءة والحديقة والسطح وغيرها ممّا تتوافر عليه البيوت الفسيحة في القرى، فلا تكاد الساعة تقترب من الخامسة عصرا حتى تجد أكثر أبناء المدينة يقصدون الحدائق للترويح عن النفس وإزالة هم العمل ومتاعبه، دونك عن إعطاء مساحة واسعة للأطفال لتفريغ طاقاتهم الحركية خارج البيت المحدد بنحو 100-150 مترا مربعا.
هذا “كان يا ما كان” سابقا، أما الآن فلا الحدائق حدائق ولا الناس القدامى هاهمُ.. ولا نقول إن قاصدي الحدائق تغيروا، لا بل لم يعد يقصدها أحد: فالقاصد للحديقة هذه الأيام لن يجد فيها ما يطلب.. وأغلب الظن أنه لن يقصدها في المدى المنظور من الأيام.
تكاد تختفي معظم المقاعد الخشبية التي كانت منتشرة في السابق على جنبات الطرقات داخل الحدائق، ولم يعد فيها ولو خزان واحد أو صنبور مياه واحد قادر على إنزال قطرة مياه واحدة تطفئ ظمأ طفل أو ترفد زهرة.. أما الغطاء النباتي فقد نسيتْه تلك الحدائق وتحولت أرضياتها إلى مجرد تربة يختلط بها بقايا العيدان والقش اليابس.. لقد تحولت الحدائق في زمن القصف والإهمال إلى مجرد مساحة من الأرض داخل المدينة مسوّرة بسياج حديدي لا يستطيع أحد تعليل وجودها، فلو شاهدها المرء للمرة الأولى ما عرف سبب تسوير قطعة فارغة من التراب وسط المدينة.
بعض الحدائق في السنوات الماضية كانت تحتوي ألعاب أطفال وملاهي يمكن أن يفرغ الأطفال من خلال لعبهم بها كمّاً كبيراً من نشاطهم وطاقاتهم، ويثير في نفسهم روح الاجتماع والتعاون وبناء علاقات اجتماعية خارج إطار البيت أو المدرسة.. أما الآن فقد تحولت هذه الألعاب إلى أحد أمرين، إما هي مجرد خردوات حديدية صدئة أو أنها أدوات أذى للأطفال إن كانوا من الزوار الجدد، “أبو إند” يحدثنا عن تجربته في زيارة إحدى حدائق مدينة إدلب:
بعد يوم عمل مرهق عدت إلى البيت لديّ أربعة أطفال بعمر الورد، تفاجأت بإلحاح الزوجة والأطفال للخروج علّنا نطلب متنفسا يزيح هم العمل ومتاعبه، تجولت في المدينة لم نجد حديقة قادرة على تحقيق مطالبنا، لكن تحت إصرار الأطفال ورغبة الزوجة بعد إحراجي بطلبهم معا تم الاستقرار في واحدة من تلك الحدائق.
دخلنا الحديقة.. هناك مجموعة من الشباب وكأنهم مجتمعين لأمر ما وليس للترويح، إضافة لطفلة واحدة وعائلتها وأغلب الظن أن حالهم كحالنا.. توزعت بناتي في الحديقة يبحثن عن لعبة صالحة، هذه مكسورة والأخرى معطلة والثالثة غير صالحة، أصرّ الأطفال على متابعة اللعب لكن عبثا وكانت النتائج تمزقت معظم ملابس بناتي إضافة لجروح تتوزع بين السكجات والإصابات، أخيرا رضيت البنات بلعبة (بيت بيوت) على التراب، مع ملاحظة خيبة الأمل في عيونهن البريئة، فهذه اللعبة تُلعب عادة في غرفة النوم دون تكبد عناء الخروج.
بقيتُ أراقب الفتيات وخيبة أملهن وانكسار أرواحهن، حديقة وأية حديقة! بلا ماء ولا عشب ولا أشجار، بلا بائع حلوى أو بوظة، بلا ألعاب.. مساحة من الأرض لا تصلح إلا لتذكيرنا بالواقع المأساوي للمدينة، وإضافتها إلى قائمة الصعوبات التي لم تستطع إدارة المدينة أن تجد لها حلا.
من المسؤول عن هذا الوضع المذري؟ من المسؤول عن سجن الأطفال في بيوتهم طوال النهار؟ فإن كانت الطائرات والحرب عامة مسؤولة عن تدمير المدينة إبان تحريرها.. فمن المسؤول بعد هذا التحرير عن إعادة إعمارها؟.. من المسؤول عن إنجاز ما كان المواطن السوري يحلم به يوم خرج مناصرا الثورة ثورة الحرية؟
اقتربت من إحدى الفتيات ممن ظهرت قطرات بسيطة من الدماء على ساعدها نتيجة جرح بأرجوحة.. (وهل الأراجيح صنعت لتجرح؟!).. مسحت يدها بمنديل اقتربت من سلة مهملات حديدية مثبتة بركن قريب هالني منظرها.. فارغة من أكياس الشبس والذرا وبقايا السندويش وعلب العصير خالية تماما، يأكلها الصدأ..
أدركت أني الوحيد الذي بقي في المدينة يظن أنه في حديقة.. جميع الناس أدركوا قبلي هذا الأمر وعزفوا عن اصطحاب أطفالهم عنها وفضلوا البقاء في المنزل خير لهم من بقعة ترابية ميتة.. أرض يباب على حد وصف (ت. س. إليوت).
عاد “أبو إند” إلى منزله خائب الرجاء، وبنات بثياب ممزقة، وأحلام ضائعة بحديقة في كوكب آخر.
ترى من المسؤول عن هذا، هل الطائرات فقط أم سكان المدينة أم غياب الإرادة وسيطرة روح الكآبة على سماء المدينة بأكملها، أم فكرة خاطئة مفادها حسب بعض الناس: “لسنا في هذا الصدد نحن في حرب”.
لكن هل الحرب مسؤولة عن ضياع ألعاب الطفولة وقتل روحهم البريئة؟!
المركز الصحفي السوري – علاء العبدالله