من بين الأضرار الكبيرة التي تسبب بها بنيامين نتنياهو للمجتمع الإسرائيلي، والأخطر من بينها هو العمى المتعمد الذي سلكه تجاه الفلسطينيين. لم يفهم نتنياهو الفلسطينيين يوماً ما، وذلك لأنه غير قادر على فهم الآخر، أي آخر، وكذلك بسبب مصالحه السياسية.
عدم الفهم هذا لم يبقه لنفسه، بل قاد حملة تجهيل مستمرة هدفها أن يجتث من وعي الجمهور كل آثار للتفكير العقلاني الذي يرتكز إلى الحقائق في موضوع النزاع. هذا الجهد نجح نجاحاً باهراً: بعد أكثر من 13 سنة لنتنياهو، يشاهد الإسرائيلي العادي التلفزيون ولا يميز بين يمينه ويساره، ولا يهتم بالفرق بين حماس والجهاد وفتح، فهم جميعاً “نفس الشيء”، ويمل من المناورات السياسية الضعيفة للفلسطينيين ضد الاحتلال الذي لم يعد يتذكر وجوده، وبالتأكيد غير قادر على أن يصوغ لنفسه فهماً مستقلاً ومنفصلاً عن الدعاية الحكومية.
هكذا يوجه نتنياهو القطيع الذي آمن جزء منه ذات يوم بالسلام وخرج للتظاهر من أجله، والذي يشمل أيضاً عدداً غير قليل من الشرقيين والخبراء والمراسلين للشؤون الأمنية وشؤون الشرق الأوسط، الذين يملكون المعلومات، ولكن ليس نقص المعلومات المتاحة هو أساس المشكلة، وحتى ليس الصقورية الزائدة أو الخلل في معايير الأخلاق، إن أساس الموضوع هو عدم الرغبة في الإصغاء، إذ تضع نفسك في حذاء الآخر من خلال سياقه. إن التعامل مع وجهة النظر الفلسطينية يجب ألا ينبع فقط من حساسية غيرية بالتحديد، بل من دوافع نفعية قبل أي شيء آخر: إذا لم تصغ للطرف الآخر فلن تتعامل بجدية مع أقواله، وتستطيع الاعتماد فقط على مواقفك المسبقة، التي هي دائماً ناقصة.
لم يقم نتنياهو باختراع العمى تجاه الفلسطينيين بشكل خاص، والعرب بشكل عام، أو التحلل النشط للرأي العام، فقد سبقه تقريباً جميع رؤساء الحكومات في ذلك، نذكر منهم غولدا مئير التي رفضت تحسسات السلام لمصر بذريعة أن أنور السادات غير مستعد لاتفاق، وحصلت على حرب يوم الغفران واتفاق سلام بعد بضع سنوات. وإيهود باراك الذي تفاجأ عندما رفض ياسر عرفات اقتراحاته في موضوع القدس وعمق الانسحاب، وهي اقتراحات كان يمكننا أن نعرف مسبقاً بأن الفلسطينيين لا يمكنهم الموافقة عليها. ورداً على ذلك، قال باراك جملة “لا يوجد شريك”، وأقنع اليمين واليسار بسهولة، وحصل على الانتفاضة الثانية وعقدين من الجمود.
أما نتنياهو فقد تفوق عليهم جميعاً؛ فالفلسطينيون بالنسبة له دمى في الكابوس اليهودي، لذلك، لا يوجد أي سبب للتعمق في الفجوات الداخلية بينهم أو التغيرات التي حدثت في مواقفهم طوال الوقت. كل أقوالهم وأفعالهم تغطية على خططهم الخبيثة. وحسب رأيه، العامل الوحيد المهم في المواجهة مع الفلسطينيين هو القوة. صحيح أن أهمية القوة هي عبرة مهمة ومبررة ولا مثيل لها، وأن الشعب اليهودي تعلم من تاريخه الحزين، لكن رؤيته كمؤشر على أي شيء في العلاقات بين الشعوب دون الأخذ في الحسبان لعناصر أخرى مثل المصالح القومية والرؤيا والاعتبارات السياسية والقيود الدولية، هي أمور غير منطقية.
أخطأ نتنياهو وضلل بشكل متعمد مرة تلو الأخرى، لقد صور القيادة الفلسطينية الحالية قيادة حربية ورافضة للتسوية، في الوقت الذي تظهر فيه الحقائق بصورة قاطعة أن الرئيس محمود عباس ومحيطه يملكون المواقف الأكثر اعتدالاً ومواقف الحد الأدنى التي كانت ذات يوم في المعسكر الفلسطيني. لقد حول طلب الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية إلى إثبات قاطع على تمسكه بمؤامرتهم لتدمير الصهيونية. كل ذلك في الوقت الذي وقعت فيه مصر والأردن اللتان على اتفاق سلام مع إسرائيل، إذ لم يطلب منهما هذا الاعتراف. والفلسطينيون أنفسهم اعترفوا في السابق بإسرائيل رسمياً في العام 1993. لقد نشر الاعتقاد بأن الفلسطينيين يريدون القضاء على إسرائيل من خلال حق العودة، رغم أن كل شخص غير منحاز يمكنه أن يفهم من موافقتهم على المبادرة العربية والتصريحات المتكررة الأخرى لزعمائهم بأنهم تنازلوا فعلياً عن عودة اللاجئين.
من يؤمن بالعقلانية ويعتقد أنها مفتاح مهم للسياسة، لا يمكنه أن يغفر لنتنياهو. فهو عدو للعبقرية اليهودية. أما نحن فسنحتاج إلى سنوات من أجل إصلاح الأضرار التي سبّبها.
نقلا عن القدس العربي