القبلة التي اعتادت أمُّ محمد أن تطبعها على وجوه أطفالها الثلاثة (2-5-8 سنوات)، للمرة الأخيرة صباح الثلاثاء، 4 أبريل/نيسان، الذين ماتوا اختناقاً بالغازات السامة في خان شيخون السورية.
فاليوم لن يذهب الثلاثة إلى المدرسة؛ لا، ولن تجهِّز لهم الأم كتبهم المدرسية، ولا طعامهم، لكنها أرادت أن تشم رائحتهم للمرة الأخيرة قبل نقلهم مثواهم الأخير.
الساعة كانت تشير للسابعة صباحاً، عندما بدأت طائرات النظام السوري بقصف خان شيخون بريف إدلب شمال غربي سوريا. الأصوات كانت ترعد، والأم التي اعتادت على هذه الأصوات كان كل همها أن تخفف من روع أطفالها، وهي على أتم الثقة أن الطائرات التي تلبد أجواء السماء الصافية في المدينة ستذهب إلى هدف آخر.
لكن الأمر لم يكن كذلك.
الثلاثة كانوا نياماً في أسرّتهم عندما قفزت الأم من سريرها لتطمئن عليهم. وحين وصلت كانت علامات الاختناق نتيجة غاز السام قد بدأت تظهر عليهم، “كانوا على قيد الحياة عندما غادرنا المنزل”، تقول أم محمد وهي تنفض الغبار عن عباءتها السوداء التي باتت بلوت التراب الآن. فارق اثنان منهما الحياة داخل سيارة الإسعاف التي تسابق الزمن للوصول إلى أقرب مستشفى. الأم كانت تعرف أن الأمر قد انتهى بالنسبة لهما. لكن الصغير كان لا يزال يتنفس عندما بدت المستشفى تلوح من نافذة سيارة الإسعاف.
تمسكها بقشة الأمل هذه لم يدم طويلاً. دقائق قصيرة أتاها الخبر الذي لا تريد أن تصدقه من طبيب المشفى: الصغير أيضا فارق الحياة. دخلت في حالة هستيريا من البكاء، فقد مات أطفالُها الثلاثة أمام عينيها الواحد تلو الآخر في صباح يوم مشمس كانت تستعد فيه لبدء يوم جديد.
عندما سألتها عن أسمائهم، ردت: لم يعد مهماً الآن فقد رحلوا!
حالة الهستيريا كانت قد بدأت تهدأ الآن. فالأم اختبرت الأمر نفسه مراراً ثم مراراً مع أمهات آخريات فقدن فلذاتهم مثلها تماما. بدت حالتها أقرب إلى التأمل منه إلى الصدمة. بلا ريب كان ينتابها السؤال الأكبر الذي قد يواجهه أي إنسان: ما معنى الحياة الآن؟
حتى أنها لم تكن تكترث كثيراً لمعرفة حال زوجها الذي أسعفوه بدوره إلى بلدة باب الهوى قرب الحدود التركية وعلى بعد ساعتين من مكانها الذي تقف فيه. ربما لم يعد الأمر مهماً بعدما خسرت أطفالها الثلاثة.
كثيرات آخريات كانت حالتهم مثل حالة أم محمد بعد تعرُّض منطقتهم التي يسيطر عليها فصائل المعارضة السورية، لأربع غارات بغاز سام، لم يتم تحديد نوعه حتى الآن، وأودى بأكثر من 100 قتيل ونحو 400 مصاب.
وكانت قد ترافقت حالات الاختناق مع الإغماء والتقيؤ وخروج الزبد من الفم. وأرقام الضحايا قابل للارتفاع، بسبب الأعداد الكبيرة من المصابين الذين يعانون من صعوبات في التنفس.
اليوم لم يكن يوماً عادياً لدى السوريين، ولم يكن عادياً أيضاً لدى آخرين كثر، لكن كان عادياً تماما لدى دوائر صنع القرار في موسكو وطهران وواشنطن وقبلهم دمشق. وستظل أم محمد تقول هلعاً وحزناً “راحو أغلى ما عندي، راحوا أغلى ما عندي”، لكن لن يلتفت أحد مثلما لم يفعلوا من قبل.