في عالم يتفاقم فيه التقاعس في الدفاع عن القيم الإنسانية والديمقراطية، في عالم من دون عظماء تبرز فيه ظاهرة القادة الأوتوقراطيين من أمثال فلاديمير بوتين ودونالد ترامب والذين يسعون للسيطرة على مشهد دولي متغير ومرتبك، يدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى “نادي الكبار”.
هل سيكون ماكرون الشاهد على استمرار تحلل النظام العالمي وتراجع دور فرنسا وأوروبا، أم سيكون الرئيس القادر على تحصين وضع فرنسا الاقتصادي والسياسي وإسماع صوتها في أوروبا والعالم، والإسهام في نقلة نوعية تبلور الحفاظ على قطب أوروبي ضروري أمام التوازنات الدولية الهشة وتخفف من تداعيات غياب الحوكمة وتصدع العولمة والحروب وصدام الحضارات والثقافات والأديان.
بينما يعيش العالم حالياً على وقع الثورة الرقمية و التكنولوجية، التي هي بمثابة المرحلة الثالثة من تطور العالم بعد الثورتين الزراعية الصناعية، نشهد تصدع العولمة السياسية وانهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية. وظهرت أخيراً دلائل الاضطراب مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من اتفاقية باريس العالمية لمكافحة تغير المناخ، ومع تحذير المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أوروبا من الرهان على ترامب ووجوب الاعتماد على نفسها.
أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يربط شعور “العداء لروسيا” (الروسوفوبيا) بترسيخ العالم متعدد الأقطاب، يعود ليتكلم عن مخاطر نشر الأنظمة الصاروخية الأميركية في آلاسكا وكوريا الجنوبية. وفي الواقع، لا تبدو صورة المشهد العالمي وردية إذ ليس هناك إقرار بالتعددية القطبية ولم تتم إعادة تشكيل النظام الدولي أو قيادته. ومن العلامات الفارقة احتدام الحروب والإرهاب والبعد الديني والشعبوية والمدّ القومي وسباق التسلح والمنافسات الاقتصادية.
أمام هذه السلبيات والصراعات المحتدمة نسمع من الصين خطاباً يحاول معاكسة اتجاهات الاضطراب والفوضى الاستراتيجية في هذه المرحلة من تطور النظام الدولي. ففي افتتاح منتدى “الحزام والطريق للتعاون الدولي” في بكين (15 مايو 2017) ركز الرئيس الصيني شي جين بينغ على “أن طرق الحرير القديمة ازدهرت في أوقات السلم لكنها فقدت القوة في أوقات الحرب، والسعي وراء مبادرة الحزام والطريق يتطلب إيجاد بيئة سلمية ومستقرة من خلال إقامة نوع جديد من العلاقات الدولية وتأسيس شراكات الحوار القائمة على أسس عدم المواجهة، ضمن احترام السيادة والكرامة والسلامة الإقليمية”. بيد أن هذا الهجوم الودي الصيني لتأمين توسع النفوذ الاقتصادي، يتلازم مع استخدام منطق القوة في بحر الصين من دون مراعاة واحترام مصالح العديد من الجيران، بالإضافة إلى تدهور الوضع في شبه الجزيرة الكورية.
هكذا تكتمل حلقات مرحلة الارتباك الدولي: إدارة دونالد ترامب وأفضلية “أميركا أولاً” مع فقدان الدور القيادي في “المجتمع الدولي الغربي” حسب تعبير وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل، مع اندفاع فلاديمير بوتين في السعي لاستعادة أمجاد القياصرة والاتحاد السوفييتي، وزحف الصين الاقتصادي والسياسي عبر طرق الحرير وغيرها، وتأرجح الاتحاد الأوروبي بعد البريكست وصعود الأوتوقراطيين والشعور القومي الشوفيني. وخارج نادي الكبار لا يعد الوضع أفضل مع أزمات التنمية والتفاوت الاقتصادي والحروب والمناطق الرمادية وانتكاس “دول القانون”.
ضمن هذه الأجواء الملبدة يبدأ عهد الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون الذي سرعان ما وجه إشارة واضحة في يوم تسلمه مقاليد الحكم بقوله “العالم وأوروبا بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى فرنسا قوية وفعالة”. وغداة ذاك اليوم بدأ معموديته الدبلوماسية بلقاء المستشارة أنجيلا ميركل وما يعنيه ذلك من أولوية للبعد الأوروبي في سياسات فرنسا الداخلية والخارجية.
وشاءت مصادفات توقيت اجتماعات دولية كبرى في الأسبوع الأخير من مايو مثل قمة حلف شمال الأطلسي وقمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، أن تفسح له المجال لدخول الحلبة الدولية وعقد عدة قمم مع نظرائه، وخاصة تلك القمة مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب حيث أن المصافحة بينهما أسالت الكثير من الحبر. ولوحظ أن المصافحة البروتوكولية بين الرئيسين استمرت لحوالي دقيقة، ما جعل يديهما تكادان تتحولان إلى اللون الأحمر لقوة وشدة “الضغط المتبادل”.
واعتبر ماكرون أن المصافحة “لم تكن بريئة بل كانت بمثابة لحظة الحقيقة”. وكشف الرئيس الفرنسي على أنه لم يكن يرغب في إظهار أي تنازلات حتى لو كانت صغيرة أو رمزية، مشيرا في نفس الوقت إلى عدم استعداده للمبالغة في القيام بأيّ شيء. بيد أن اختبار القوة الفعلي مع الرئيس دونالد ترامب خسره عملياً الجانب الأوروبي لأن ترامب لم يطمئن الشركاء في حلف شمال الأطلسي لأنه أغفل ذكر المادة الخامسة من معاهدة تأسيسه في الدفاع عن جميع أعضاء الحلف.
وأتى الانسحاب الترامبي من اتفاقية تغير المناخ بالرغم من جهود الأوروبيين خلال قمة السبع، ليسدد ضربة كبرى لجهود شاقة قامت بها الدبلوماسية الفرنسية في عهد فرنسوا هولاند، وليستنتج الرئيس الجديد أن اللعبة الدولية لا ترحم إن من جانب الحلفاء أو من جانب الخصوم. وانبرى يخاطب الشعب الأميركي باللغة الإنكليزية ويحور شعار الرئيس ترامب الانتخابي عن “عظمة أميركا” بشعار للحفاظ على البيئة والطبيعة فحواه “لنجعل كوكبنا عظيماً مرة أخرى”.
بالطبع، الشعارات سهلة لكن فن الدبلوماسية يتطلب التوفيق بين المثاليات والوقائع وفق نظرة بعيدة عن التبسيط، وينساق ذلك مع اختيار الأولويات في العمل لمواجهة تضارب مصالح متخاصمة غالباً.
يتسلح ماكرون في بداياته بتجربته كوزير سابق للاقتصاد ومستشار سابق للرئيس فرنسوا هولاند مما يعوض النقص في خبرته الدبلوماسية. ويبدو أن الرئيس الشاب ألمّ بسرعة بالقواعد واستعد بشكل جيد لفهم العالم. إنه أمام تحدي إثبات الوجود لأن سحر شبابه وبراعة إدارته للمعركة الانتخابية واندفاعه إلى الأمام لا تكفي من دون إعطاء مضمون غني ومقنع للخطاب الفرنسي وتوضيح مواقفه من شؤون وشجون هذه الحقبة.
بيد أن الاختبار الأهم للرئيس الفرنسي الجديد تمثل في القمة التي جمعته في 29 مايو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في قصر فرساي. وهناك حضر التاريخ بكل أبعاده ليس لتذكر القيصر بطرس الأكبر بعد ثلاثة قرون على زيارته الشهيرة إلى فرنسا فحسب، بل لإعادة الحوار الضروري بين باريس وموسكو والذي اهتز بتطورات السنوات الأخيرة، ولأن المسألة تتعدّى المصافحات التقليدية والمراسيم لأن دور فرنسا الأكثر فاعلية وإنتاجية سيكون على المحك مع رئيس واعد يستند طوعاً إلى إرثي شارل ديغول وفرنسوا ميتران لإعادة الهيبة إلى الموقع الرئاسي وللحفاظ على موقع فرنسا كقوة كبرى في حقبة الارتباك.
تقول المصادر الفرنسية إن حوار الرئيسين كان صريحا ومفيدا ومن دون تنازلات. وهذا يعني أن كل طرف اختبر الآخر وخاصة بوتين الذي يسعى لجذب ماكرون ودعاه إلى موسكو. من الناحية العملية جرى الاكتفاء بتشكيل “مجموعة عمل” لمكافحة الإرهاب قوامها تبادل المعلومات وخصوصاً عن الجهاديين من البلدين. ويسود غموض حول التتمة خاصة حول مقدار الثقة بين الأجهزة المعنية وتمكن باريس من تجاوز الأوروبيين والأميركان.
أما بالنسبة إلى الملف السوري (سبب تأجيل زيارة بوتين في أكتوبر 2016) فقد استنتج الطرفان خلافهما مع تراجع فرنسي إذ أن ماكرون أقر لبوتين بأن إزاحة بشار الأسد ليست أولوية وإنما الأولوية لانطلاق مسار الانتقال الديمقراطي والحفاظ على الدولة. وأبدت باريس تمسكها بالحل السياسي وفق وثيقة جنيف والقرار الدولي 2254. أما كلام ماكرون عن الخط الأحمر الكيميائي فيعد رسالة برسم اللاعبين الآخرين على أنه لا يمكن حذف فرنسا من المعادلة السورية.
إنها بدايات لحظة إيمانويل ماكرون في حقبة الاضطراب الاستراتيجي. ظاهرياً ولناحية الصورة، تبدو البداية مشجعة. لكن الأهم هو ترجمة التمنيات وتحقيق ما يوجد في المضمون لكي لا تكتفي بلاد فولتير بسحر الكلمة وتنتقل من جديد إلى مواقع الأفعال المؤثرة من أجل مستقبلها ومستقبل العالم.
العرب اللندنية-د.خطار أبو دياب