كما هي حال معظم الحروب التي يتكبد أسوأ نتائجها الأطفال والنساء، تكيفت معظم النساء السوريات لمصارعة الأزمات وتولي مهمة تأمين متطلبات المعيشة لعائلاتهن، إذ أرغمن في أحيان كثيرة على تأدية بأدوار متعددة، بعد تناقص الدعم الممول من المنظمات الدولية المهتمة بقضايا اللاجئين والنازحين في المخيمات العراقية، وإغلاق الحكومة العراقية المخيمات وسط العراق وغربه، أواخر عام 2020، مع الإبقاء على بعض المخيمات في إقليم كردستان العراق، فيما فضلت كثيرات وكثيرون (أربعة من خمسة أشخاص من النساء والأطفال) ترك المخيمات بحثاً عن فرص عمل.
قررت لاجئات كثيرات المجيء إلى العاصمة بغداد، التي تشهد ارتفاعاً في نسبة البطالة، بحثاً عن فرص العمل، معظمهن يعملن في المقاهي المخصصة للرجال أو مراكز الحلاقة والمطاعم، لكن معظمهن لم يحالفهن الحظ في العثور على فرصة للعمل واضطررن إلى التسول بخاصة بعدما تعرضن للاستغلال الجسدي والطرد من قبل أرباب العمل.
بحسب “المفوضية السامية لشؤون اللاجئين”، رفض مجلس النواب العراقي عام 2020 مسودة قانون اللجوء المصمم لتوفير هيكلية قانونية للاجئين وطالبي اللجوء في العراق، كما فاقمت جائحة “كورونا” مخاطر الحماية للاجئين، ما دفع الكثير من النساء والأطفال إلى التسول، مع انخفاض الحصص الغذائية الكافية لإطعامهم.
بلغ عدد اللاجئين السوريين في العراق عام 2020 حوالى 242163 سورياً، وشكلت النساء 48 في المئة من إجمالي العدد، أكثر من 90 في المئة من اللاجئين السوريين تمركزوا في إقليم كردستان العراق، 40 في المئة منهم عاشوا في 10 مخيماتٍ للجوء.
رحلة التسول والاستغلال
كانت نادية فارس (23 سنة) التي لم تتمكن بشاعة الحرب والفقر من التغلب على مظهرها الأنيق تتنقل بين السيارات الفارهة في شوارع بغداد، لطلب المساعدة بصوت خجول: “كما هي حال جميع اللاجئات، فررنا من سوريا أنا ووالدتي وإخوتي الصغار بعدما قصفت الطائرات جميع المنازل في مدينتي التي تحولت الى ركام، كان إخوتي الصغار حينها يتوسلون للحصول على الطعام، وحين وصلت الى أحد المخيمات في كردستان العراق، بقينا فيه لسنتين لكن الأمر لم يكن سهلاً لذلك تركت المخيم حال معرفتي بوجود شركات توظف عاملات تنظيف للعمل في المنازل”.
قدمت نادية طلباً لتصبح عاملة نظافة في أحد المقاهي المنتشرة في بغداد والتي يرتادها الرجال فقط، هناك كانت عرضة للتحرش اللفظي وأحياناً الجسدي من قبل رواد المقهى: “حاول أحد الزبائن أن يتحرش بي وعندما رفضت وطردته كان صاحب العمل يلومني على خسارة الزبائن، حتى إنه بدأ بتخفيض المرتب إلى أن حاول التحرش بي بشكل مباشر وعندما رفضت، طردني”.
لم تنته رحلة الاستغلال مع نادية ومثيلاتها من اللاجئات اللواتي أجبرتهن الحاجة على التسول أو العمل في ظروف مهينة تفتقر إلى الحماية، فما زلن يتعرضن للشتائم والتحرش الجسدي من قبل سائقي المركبات كلما حاولت إحداهن طلب المساعدة: “يعتقدون أنني قد أمنحهم جسدي مقابل الطعام أو الحصول على بعض النقود”.
تشارك نادية وعدد من النساء والأطفال ما يتبقى من طعام أحد المطاعم الذي يُرمى في نهاية كل يوم وهي تبدو راضية بما تحصل عليه، مقابل التخلص من الأيادي التي تحاول استغلال جسدها.
عقدت “منظمة العمل الدولية” منذ نشأتها ومزاولتها لنشاطها بعد الحرب العالمية الأولى اتفاقيات تهدف إلى حماية النساء العاملات ومن أهم هذه الاتفاقيات، الاتفاقية رقم 3 لسنة 1919 حول حماية الأمومة، واتفاقية 190 لسنة 2019 حول العنف والتحرش في عالم العمل، إلى عدد من الاتفاقيات التي تعنى بتنظيم عمل النساء وتحديد أجورهن وحماية العاملات الأمهات.
قوانين حماية العاملات
يحظر قانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015 تشغيل النساء في الأعمال المرهقة أو المضرة بالصحة وذلك في المادة 58/ ثانياً، والتي تنصّ على “حظر تشغيل المرأة العاملة في الأعمال المرهقة أو الضارة بالصحة والمحددة وفق التعليمات الصادرة بموجب المادة (67/ ثالثاً) من هذا القانون”.
وتفتقد لاجئات عاملات إلى الأوراق القانونية التي تمنحهن شرعية للإقامة والعمل في البلاد، ما يتركهن فريسة لأرباب العمل والمتحرشين.
تقول الناشطة النسوية فاتن خليل، إنها تابعت قضايا نازحات ولاجئات تعرضن للتحرش والاستغلال من أصحاب العمل، فقد أجبر صاحب أحد النوادي الليلة لاجئة لم تبلغ الثامنة عشرة كانت تعمل في تنظيف الطاولات، على تقديم خدمات جنسية، وكانت تخشى الإبلاغ عنه لأنها فقدت جميع أفراد عائلتها ولم تعرف أي جهة تقصد لمساعدتها.
تدعو فاتن المنظمات الإنسانية إلى توفير الرعاية والحماية للواتي أجبرتهن ظروف الحرب على الهروب بحثاً عن الأمان والقبول بأي عمل والرضوخ لمعاملة أصحاب العمل المجحفة، كما تطالب بزيارات تفقدية لأماكن عمل النساء وتوعيتهن لمنع تعرضهن للاستغلال بخاصة أن معظمهن يعانين من مشكلات نفسية ومادية واجتماعية بسبب ما مررن له.
تقول إحدى العاملات والتي رفضت الإفصاح عن اسمها لأسباب تتعلق بعملها، إن الفقر وفقدان التعليم هو السبب الرئيس لاستغلال حاجة اللاجئات المادية من قبل أصحاب العمل، لذلك تخشى معظمهن الإبلاغ عقب تعرضهن للاعتداء أو التحرش، إضافة الى عدم وجود جهات حكومية أو مدنية يقدمن الشكاوى عندها، لاتخاذ إجراءات حيال ذلك.
إيلاف كريم (35 سنة) أم لطفلين قتلت زوجها جماعات مسلحة في سوريا، وأتت إلى العراق، للحصول على عمل، لكنها تشكو من تهديدها بالطرد من عملها في عيادة طبية (لقاء ما يساوي 50 دولاراً شهرياً)، فالطبيب صاحب العيادة يرفض وجود طفليها معها أثناء العمل ولا تملك رفاهية تركهما مع شخص ما للاعتناء بهما، ولا يكفي مرتبها لتوفير ثمن الغرفة التي تستأجرها، علماً أنها تملك شهادة جامعية. كما أن فرصة الحصول على عمل في تدبير منزل، معدومة للواتي بصحبة أطفالهن.
الاتجار بالبشر
تنتقد ميس عزيز (22 سنة) لاجئة سورية، وهي عاملة نظافة في إحدى شركات العمالة، طريقة نشر المؤسسات صور العاملات وعرضها على مواقع التواصل، ليتم تداولها كسلع، فتتعرض النساء لتعليقات سلبية يصاحبها تحرش جنسي، ورأت ان الأمر أشبه بتجارة البشر.
خاضت ميس تجربة مؤلمة حين صادفت تداول صورها الشخصية مع تعليقات بذيئة، على الصفحات التجارية للشركات الخاصة بتوفير عاملات التنظيف. أحد التعليقات كتبه شخص يطالب باستئجارها من أجل استغلالها جسدياً بحسب ما روت.
العميد عزيز صباح من وزارة الداخلية في العاصمة بغداد يقول إنه “في السابق كان الكثير من اللاجئين ممن لا يحملون الإقامات الرسمية عرضة للاستغلال من جهات ترغمهم على العمل القسري والتسول مقابل تأمين سكنهم داخل بغداد والمحافظات، إلا أن هذه القصص تم القضاء عليها عبر تسهيل إقامات اللاجئين في كردستان العراق، وعلى رغم انتشار التسول إلا أننا نعمل على الحد من الانتهاكات التي تتعرض لها النساء في الشارع، من خلال اللجوء إلى نقاط التفتيش”.
الخوف من الإبلاغ عن العنف
تتابع انتصار جبار من نقابة العمال هذه القضايا وتلاحقها، وتقول إن اللاجئات السوريات الشابات “يواجهن تحديات هائلة في سبيل سعيهن للحصول على فرصة عمل مناسبة في البلدان المضيفة، وتعتمد كثيرات على المساعدات الإنسانية لتلبية احتياجاتهن الأساسية، وتشمل هذه المعوقات القيود القانونية، والقيود المفروضة على الحركة والانتقال، وظروف العمل السيئة، وانخفاض الأجور، و قد تتعرض اللاجئات للعنف والمضايقات بسبب عدم وجود أنظمة رسمية لإحالة هذه الحالات للتحقيق والخوف من أن يؤثر ذلك سلباً في مسألة إقامتهن”. وتشير جبار إلى “انتهاكات من أصحاب العمل في القطاع الخاص العراقي وذلك لعدم تفعيل قانون العمل رقم 37 لسنة 2015، واللاجئات السوريات يعملن ضمن القطاع الخاص ويتم استغلالهن بالعمل لساعات أكثر”.
وفي الوقت ذاته، تواجه البلدان المضيفة مثل لبنان والأردن والعراق وتركيا، تحديات تتمثل في تلبية احتياجات اللاجئين الأساسية، فيما تواجه هذه البلدان تحديات اقتصادية واجتماعية حادة.
ترى جبّار أن اللاجئين هم من الشرائح المستضعفة التي تستحق الرعاية، ومن شأن استهداف هذه الشرائح الأولى بالرعاية التخفيف من حدة التوتر بين المجتمعات المحلية، والإشادة بما توفره البلدان المضيفة من خدمات النفع العام عندما توفر الملاذ الآمن للمشردين والنازحين. وعلى الحكومات المضيفة، تتابع جبّار، “تحقيق المرونة في إصدار تصاريح العمل لمساعدة اللاجئات في الحصول على وظائف في قطاعات عدة، بما في ذلك القطاعات التي يهيمن عليها الذكور”.
ومن بين الحلول التي تقترحها نقابة العمال لمساعدة اللاجئات في العراق، هو التدريب على بعض الأنشطة والمهن وتوفير التمويل لرائدات الأعمال، وتدريب النساء على مهارات الدفاع عن النفس.
وعلى رغم سعي الجهات والمنظمات الإنسانية للحد من التحديات التي تواجه اللاجئات في العراق، وبخاصة القضايا المتعلقة بالعمل، إلا أن هذه الجهات تقر بأن الحلول حتّى الآن تستغرق وقتاً، بخاصة أن كثيرات منهن لا يعلمن بوجود هذه المنظمات النسوية والنقابة العمالية في العراق. معظم النساء ممن تركن المخيم وتوجّهن الى بغداد للعمل لم يحاولن العودة لطلب المساعدة، إما لجهلهن بوجود مثل هذه الجهات، أو لأنهن يعتقدن ان اللجوء الى القوات الأمنية يعرضهن لخطر الابتزاز.
تم إنجاز هذا التقرير بالتعاون مع “منظمة العمل الدولية”
نقلاً عن وكالة درج