هكذا هي سوريا.. تحمل بين ضلوعها كثيرا من الألم والأوجاع، قصصا من الحرمان تعددت أشكاله، فقط في بلدي سوريا يحرم الإنسان من كل شيء، يستبدل الحب بالحرب والأفراح بالأتراح والألم بالأمل، “يا الله قديش الدنيا فيها قهر” أسمعها كل يوم تردد تلك الكلمة يوميا على مسامعي حتى صرت أحسبها كلمة ترحيب يومية، يلتقي الناس ويتبادلون معها ابتسامات مليئة بالغصات والدموع وكثيرا من الأحيان تحمل بين حروفها التعزية.
“يا الله قديش الدنيا فيها قهر” كلمة أجد نفسي استهل بها كلامي بشكل لا شعوري وأحس بها تخرج وتمزق كل شراييني وخصوصا عندما أتذكر ابني خير الدين.. ولدي الذي ربيته كل شبر بندر.. كنت أقول عندما يقع ابني في كل مرة ” قم يا بني.. قم فكل طبة بشبة”_ أي كلما وقعت كبرت يا عزيزي_ ليقف دائما على رجليه مجددا، أما الآن ماذا أقول له وقد فقد رجليه ويدا كانت اليد التي تغدق علي من أشكال الكرم والحب ما يجعلني أدعو له بالرضى أينما أتّجهُ، كان يعمل ليلا نهارا دون تأفف مُغدقا على البيت وعلى أختيه المتزوجتين وأولادهنّ.
عاد صغيري يبكي كما كان طفلا في حضني.. عاد صغيري يسألني أسئلة لا أجوبة لي عليها.. ستة وعشرين ربيعا من عمره عاشها تلتطم الحياة بخديه يمنة ويسرة، فتأخذ من شبابه ومن قوته.. تجعله مقعدا بفعل الحرب التي ما تدخل بتفاصيلها أبدا.. برميل واحد كان كفيلا بقتل ثلاثة شبان من زينة الشبان وجعل آخرين مقعدين عاجزين، يجلسون على قارعة الطريق يشاهدون المارة لا عمل لهم سوى التحسر على شباب مات داخلهم، فهم هنا ليس باستطاعتهم عمل أيُّ شيء فلا وظائف لشهاداتهم ولا أعمال حرة يستطيعون شغلها لعجزهم فهم بحاجة إلى من يخدمهم ويقوم على حاجياتهم..
خير الدين الذي لم يرفع صوته أبدا في وجهي يوما، بات الغضب أحد سمات شخصيته، كان رحيب الصدر دائم الابتسامة والمزاح لطيف المعشر، ويحب الاختلاط بالناس، والآن لا أملك له إلا الدعاء بأن يريح الله نفسه ويهدئها، يصرخ دوما ويبكي كثيرا وهو يقول لي” كأني علقة أمص دم أبي العجوز بلا رحمة يصرف علي وعلى علاجي.. أيُّ الأبناء أنا”.. حاولت إخراجه من حالته بالبحث عن عروس ترضى به على وضعه إلا أن وضعه يزيد سوءا بعد كل رفض.. ولا أملك إلا قول ” حسبي الله ونعم الوكيل”.
“يا الله قديش هالدنيا فيها قهر” كلمة تنم عن ألم تجاوز كل الحدود تحذف تلقائيا كل شعور بالأمل، لكنها الحياة تحتاج من الصبر وتصبير القلوب والأنفس الملتاعة، كما تحتاج إلى كثير من المحاولة.. فابني خير الدين أبدل حروف الألم لتصبح أمل وعاد للحياة على ضعف الإمكانات وقد افتتح كشكا صغيرا يجلس أمامه بدل مراقبة الناس في الشارع، لعل يده تعود لتغدق من جديد على بيتي ولعل مفارقة التفكير المرهق تنفع قلبه المتحطم.
آية رضوان
المركز الصحفي السوري