ابراهيم نصر الله( القدس العربي)
لا تنهار الأمم بانهيار مثقفيها وانهيار قادتها وحسب، بل بانهيار الإنسان اليومي الموجود في المدرسة والشارع والمستشفى ومحلات البيع والحافلة والمعابد أيضاً.
ثمة قيم كبرى تراجعت، أو هزمت، كانت جزءاً من يومنا، وهي لا بدّ، لم تزل موجودة هنا أو هناك، مثل جُزر معزولة أو واحات تتطلع لطائر يشربها أو كائن وحيد يبحث عن وجهته لترويه، لكن لنعترف أننا خلال السنوات الثلاثين الأخيرة تغيرنا في هذا العالم العربي الممتد بين ماءين وأكثر من صحراء.
بعض الأصوات الصادقة النظيفة ما زالت حُرقتها تتردد في أسئلة كثيرة حول ماض لم نزل نكتب قصائد المديح في هياكله العظمية، ناسين كل ما فيه من قلوب خضراء، وأسئلة عن حاضر كلما أمسكنا بخيط نور يعبره انتهينا إلى قلب ظلام جديد، وأسئلة عن مستقبل لا نلمح فيه سوى عتباته التي قد لا يسمح لنا حتى ببلوغها، أو العيش والنوم عليها.
وفي كل مرة يفاجئنا سؤال يتردد: ما هو دور المثقفين، وأين هم؟
الحقيقة الأولى هنا أن من يسأل هذا السؤال هو مثقف بصورة أو بأخرى، لأنه يدرك معنى سؤاله، بحيث يحق لأحدنا أن يسأله: وأين دورك؟ والمسألة الأخرى أن السؤال يتناسى ذلك الدور الكبير الذي لعبته وما زالت تلعبه الثقافة العربية في حياتنا منذ أن كانت الصحيفة والإذاعة ومحطة التلفزيون الرسمية والكتاب المدرسي ملكاً للأنظمة، إلى أن أصبح لها اليوم كل شيء تقريباً، الفضاء بقنواته، والشارع بكاميراته، والهواتف الأذكى منا، حين نرضى جميعاً أن ترافقنا وتظل تحت أعيننا راصدة كل همساتنا بعد زمان كان فيه الواحد منا يتملص من كل متابعات المخبرين الصغار الذين يخفون رؤوسهم خلف الصحف في المقهى، أو أعينهم بنظارات سوداء تفضحهم أكثر مما تخفيهم، أو يخفون قاماتهم ووجوههم تحت معاطف طويلة ذات ياقات مرفوعة كأنهم يخشون أن نطلّ على مفاتنهم وسماحة ملامحهم!
يرفض الإنسان اليومي أن يتأمل ما هو فيه؛ وفي عالمنا العربي اعتاد دائماً أن يُحمّل الذنوب لآخرين، أو يقبل بتحميلهم الذنوب، سواء كانوا مثقفين أم غير ذلك، فلا أحد يسأل عن دوره، وكلنا نسأل عن أدوار الآخرين.
ننتظر مقالاً عن ذلك الذي نحسّه، كمواطنين عرب مثلاً، ضد موجة الصهينة التي تجتاح أنظمتنا، ولكن لا أحد يفتح فمه المملوء بالتراب أو بالمال ليقول ما يجب أن يقوله.
المثقف موجود في كل ما أُنتج من جمال عبر التاريخ، وليس ما أُنتج اليوم وحسب، لذا من العبث أن يتواصل هذا العماء الذي ينتظر مقالاً أو قصيدة أو احتاج ليقول إن المثقف حاضر، أو إن المثقف غائب.
صحيح أن هناك مثقفين سقطوا وباعوا مبادئهم، ولكن هذه المسألة ليست اختراعاً عربياً ولد في هذا الزمان وحسب، بل كانت موجودة وجزءاً من تراثنا وتراث البشرية. كان هؤلاء يصعدون وينهارون، ودائماً كان هناك من هم عكسهم، وهناك من يتشبث بحقه في الحرية والحياة لا بحقه في العطايا؛ وقد باتت العطايا اليوم غير مقتصرة على شراء هؤلاء، بل هي جزء أساس من شراء المواطن اليومي، الذي بات يسمع أقل مما يرى، ويرى أقل مما يسمع، ويتحرك أقل مما يمشي، ويمشي وهو أكثر حرصاً على أن يسلك وجهة مغايرة لما يتمناه قلبه وروحه وعقله وضميره.
ربما نستطيع أن نقول بغير تردد إن الثقافة العربية كانت رافعة كبرى للوعي منذ زمن الاستقلال، ذلك الزمن الذي أعقبته احتفالات وزِّع فيها من الحلوى ما لا يكفي لمحو مرارة السنوات التي تلتها، وعلى كل المستويات، في التراجع الحضاري الذي لم تنقذه مدرسة قامت على التلقين، ولا جامعة تحوّل حفل التخرّج منها إلى احتفال ستبدأ حلواه بالتحوّل صبيحة اليوم التالي إلى علقم، حيث الخريج المبدع مرذولاً، والمتخلف سيداً ما دام يملك ظهراً أو أمضى دراسته وهو يكتب أبشع التقارير عن رفاقه في رحلة: العلم نور!
ودائماً يعود السؤال عن دور المثقفين، وهو في الحقيقة يعني أين هم هذه الأيام؟ وهو أكثر الأسئلة غرابة في ظني، وكأن الثقافة هي ما يُنتج اليوم لا غير، وكأن المثقفين هم أولئك الذي ما زالوا بيننا على قيد الحياة لا غير، وننسى أن التاريخ البشري حافل بأسماء ناصعة لا حصر لها، والثقافة العربية حافلة بأسماء لا حصر لها، تمرّدت وقالت، ودفعت الثمن. ولكن الوعي اليومي، إن جاز لنا أن نصفه كذلك، يمحو كل ما هو مضيء في التاريخ، في زمن يتشبث فيه أعداء يومه وغده بكل ما هو مظلم في التاريخ، ليمحوا وجوده فعلاً لا قولاً. وكأن صاحب السؤال الذي احترق دمه حزناً على أوطاننا يتعامل مع كل منجز تاريخي مضيء تحقق كما يتعامل مع الصحيفة اليومية؛ فكل عدد صدر عنها أمس لا قيمة له اليوم! كأنه نشرة أخبار يمحو فيها دم شهداء اليوم ما سُفك من دماء شهداء نشرة الأمس.
تتكئ الأمم على أجمل ما فيها لتنهض، وأجمل ما فيها هو كل ما كان أمس واليوم وتحلم به أن يكون غداً.
المثقفون هم كل هذا.
لكن الأمم في النهاية ليست من يكتب، ويرسم، ويبدع، ويُعلِّم، ويطبب، ويبني، ويُصلح خزان الماء، ويصنع الأبواب والشبابيك، ويحرس المكان، ويقود، أو يحكم، ويدافع، ويشق الطريق، و…
إنه كل هؤلاء.
المثقف موجود في كل ما أُنتج من جمال عبر التاريخ، وليس ما أُنتج اليوم وحسب، لذا من العبث أن يتواصل هذا العماء الذي ينتظر مقالاً أو قصيدة أو احتاج ليقول إن المثقف حاضر، أو إن المثقف غائب.
كل البشر اليوميين هنا يعون الآن ما يحدث لهم ولأوطانهم، ويرون قادة أوطانهم يحتضنون قاتليهم الذين يسحقون بأحذيتهم الملطخة بالدماء كرامتهم ويقودون أولادهم ومستقبل أولادهم إلى الحظائر لكي يكونوا مصادر غذاء لدبابات وعنصرية وغطرسة ومصانع هؤلاء الأعداء.
وبعد:
صعــدنا.. إلى منبرِ الكلماتِ
نـزلْنــا.. إلى ساحةٍ من رصاصٍ
هتفنـــا.. إلى أن تشقَّقتِ الـرّوحُ
بُحَّ دَمٌ، بُحَّ حُلْمٌ وصوتْ
ختَمْنا معاركَنا ورجعنا
وإذ قاتلونا.. هنالكَ في البيتْ!
*نقلاً عن: القدس العربي*