نبيل شبيب
التقويم السليم المطلوب يتحدّى ما نشأ من مراكز دراسات “ثورية” لنشر دراسات منهجية موضوعية، شريطة أن تكون علمية ومستقلة، وتكون هادفة أيضًا.. أي تبين “كيف” تستمر الثورة وتصل إلى أهدافها، ولا تكتفي بتوزيع المسؤولية عن أخطائها وعن طول مسارها وعن عدم تحقيق أهدافها بعد.
والتقويم السليم المطلوب هو ما يقوم:
١- بعيدًا عن مفعول العاطفة الحماسية التي ترى الإيجابيات فقط وتزين التوقعات تبعًا لذلك، ولكن العاطفة الحماسية ليست مرفوضة إذا أمكن ضبطها وتوجيهها لتقوية الأمل، وتطوير العمل، ومضاعفة الجهد، وضبط المسار..
٢- وبعيدًا كذلك عن مفعول التشاؤم الذي يرى السلبيات فقط عبر منظار أسود فيسوّد التوقعات أيضًا، وهذا مرفوض من حيث الأساس، فمن لا يرى نورًا في الأفق لا يمكن أن يرى ”الطريق” إليه، ناهيك عن سلوكه، وكل خطوة رجوع إلى الوراء لا تخفف من مفعول “النكبات” في سورية، فنكبة هذه النكبات هي استمرار وجود بقايا النظام الذي يسببها جميعًا.. واستئصاله هدف ثابت للحيلولة دون ما كان يمارسه من قبل الثورة أيضًا، وهو الهدف الذي أراده جيل أطلق الثورة من عقالها، لأنه يرفض -ولا يزال يرفض- الخنوع والخضوع والاستكانة لهمجية استبدادية فاسدة.
أين كنا.. في مطلع العام الرابع؟
كيف نقوّم العام الرابع للثورة الشعبية في سورية؟..
لا يمكن تقويم مسار الثورة في نهاية عامها الرابع دون النظر إلى ما كانت عليه في بدايته، أي إلى حصيلة الأعوام الثلاثة السابقة.
وقد كان الجزء الأعظم من العام الأول عام الثورة الشعبية السلمية التي انتشرت انتشارًا قويًّا وسريعًا وفاعلًا في مواجهة قمع إجرامي إرهابي استبدادي لا مثيل له.. ولا يزال ذلك العام هو محرك “الطاقة الثورية”..
وكان العام الثاني عام ولادة استخدام القوة المشروعة المتنامية مع قدر كبير من التضحيات والبطولات ضد نظام لم تكن له مشروعية منذ نشأته الأولى، ولم يعد يُحتمل بقاؤه شعبيًّا بحال من الأحوال.. ولا يزال ذلك العام شاهدًا على خطورة الوهم الكاذب أن الاستبداد لا يُقهر..
وكان العام الثالث حافلًا بالأخطاء الذاتية الكبيرة، وكذلك بتصعيد الدعم الخارجي للنظام المتهالك، وبالوعود المزيفة لنصرة الشعب الثائر، فضلًا عن “العدوان الخارجي” ضد الثورة، على ثلاثة محاور:
المحور الأول: العمل لتوظيف الثورة الشعبية أداة لإيجاد وضع بديل لا يحقق أهداف الثورة بل يخدم معادلة “التبعية والهيمنة” بصيغة جديدة لم توضع من أجل سورية فقط، بل للمنطقة بأكملها..
والمحور الثاني: دعم أسباب التمزق الداخلي وتغذيته عبر تنظيمات ترفع عنوان الثورة وتمارس العنف غير المشروع (الإرهاب) وتوجه ضرباتها للثوار في الدرجة الأولى، وتسعى لتحقيق أغراض لا علاقة لها بالشعب والوطن في سورية..
والمحور الثالث: الهبوط بالعدوان الخارجي على الثورة على الصعيد “الإنساني” إلى حضيض لا يختلف كثيرًا عن حضيض الاستبداد الفاسد الهمجي، حتى تحولت “المعاناة” الشعبية غير المسبوقة إلى “ورقة ضغوط في صراع لعبة الأمم” للهيمنة على مسار الثورة نفسه، في موازاة “مضاعفة تلك المعاناة” عبر التشريد والتقتيل والاعتقالات والتعذيب والقصف المتواصل والبراميل المتفجرة وحصار “التجويع”.
أين أصبحنا الآن؟
لقد كانت حصيلة الأعوام الثلاثة مع بداية العام الرابع هي انتشار ما كان متوقعًا: التيئيس، والتشاؤم، والإحباط، وكذلك التخبط في غياب الرؤية “السياسية الثورية التغييرية” إلى جانب ازدياد خطورة الأخطاء والانحرافات واقعيًّا وعبر تضخيمها على السواء..
وكان من المفروض تبعًا لذلك أن تنتهي الثورة مع نهاية العام الرابع.. ولا تزال الثورة مستمرة.
يوجد من يتساءل في العالم الافتراضي تخصيصًا: وأين هي الثورة؟.. ولن يراها على حقيقتها إذا بقي في عالمه الافتراضي.. ولا يعني ذلك أن “الواقع الحالي” لمسار الثورة هو واقع “نضوج ثمرات النصر”.. ولكن:
١- صحيح.. أن الأوضاع الميدانية ليست على الصورة المثالية الجديرة بثورة شعبية حققت بصدور من أطلقها من شباب شعب سورية وفتياته في العام الأول، ما لا نزال ننتظر أن يعطي “ثماره” الآن..
ولكن.. حتى الذين يجتهدون في رسم خرائط متجددة للجبهات الداخلية، لا يجدون الآن سوى “ثلث” أرض الوطن تحت سيطرة بقايا النظام وميليشيات مستوردة، وكان قبل أربعة أعوام يسيطر على الوطن كله.
٢- صحيح.. أن الفصائل المسلحة لم تحقق حتى اليوم وحدة الصفوف المرجوة، بل لم ينقطع حبل “الاقتتال” هنا وهناك، بمشاركة من ينتحل راية “ثورية” ومشاركة من يحصر الثورة في “رايته” ومشاركة من لا يزال يظن خيرًا في أصحاب “الوعود المزيفة” في “مجتمع دولي” ولا يدرك أن القوى الدولية لا تريد أن تصل ثورات شعب سورية وأخواتها إلى هدف “تحرير الإرادة الشعبية” بمعنى تحرير الإنسان والأوطان..
ولكن.. لم تنقطع الإنجازات الميدانية في أصعب الظروف، حتى تحت الحصار كما في غوطة دمشق، وحتى في مواجهة هجمات عدوانية شرسة كما في جبهة حلب، أو في الجبهة الجنوبية، ويوجد من الفصائل الكبرى من بقي خارج نطاق أي شكل من أشكال الاقتتال رغم الضغوط، وعلى هؤلاء المُعتمَد في قادم الأيام في المسار الثوري الميداني..
٣- صحيح.. أن العام الرابع من الثورة أيضًا لم يشهد ما يكفي من الانسجام بين المسارات الميدانية والسياسية والفكرية والإعلامية والتمويلية والأهلية/ المدنية، ولم يبلغ التنسيق حتى في كل مسار على حدة حدًّا كافيًا للوفاء بمتطلبات الثورة..
ولكن.. تشهد التفاصيل أن البحث عن سبل تحقُّق الانسجام والتنسيق أصبح هو السمة الغالبة في العلاقات بين عموم السوريين، ولئن لم يتم التوصل إلى قدر كافٍ من ذلك، فقد يتحقق الكثير منه في الفترة المقبلة.
لقد حقق العام الرابع تقدمًا في طريق الثورة وإن لم يكن تقدمًا كبيرًا، إنما يعطي المخلصين أملًا كبيرًا فيما يمكن وصفه بتراكم الإنجازات.. فضخامة العقبات ومواجهتها مع طول الطريق، ساهمت في اكتساب خبرات وخوض تجارب، مما يدعم تراكم الإنجازات بدلًا من التقلب المتواصل صعودًا وهبوطًا وتقدمًا وتأخرًا، فالنصر النهائي هو الحصيلة المباشرة لتراكم الإنجازات.. وعندما نخطو الخطوة الأولى على هذا الطريق، تتسارع الخطوات التالية تلقائيًّا، ويتضاعف تراكم الإنجازات، ولهذا نتطلع بأمل كبير وثقة كبيرة إلى مسار الثورة نحو النصر في عامها الخامس، عام الحسم، ولا نغفل أن هذا ما يحتاج إلى مضاعفة الجهود واستقامتها وتكاملها والاعتماد في ذلك على شعبنا وطاقاتنا الذاتية مع اليقين بنصر رب العزة، ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز.