عملت عالية في المكتبات المركزية منذ تخرجها من الجامعة المستنصرية في بغداد عام 1975 لتحمل البكالوريوس في علم المكتبات وتنتقل بين مكاتب الوحدات الإدارية وبعض المحافظات العراقية ويستقر بها الحال في مكتبة البصرة منذ عام 1989 وترفّعت في سلّمها الوظيفي حتى أحيلت إلى التقاعد.
في الأيام العشرة الفاصلة قبل دخول القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية محافظة البصرة عام 2003، كانت عالية محمد باقر الخفاجي، أمينة المكتبة المركزية في المدينة، حائرة في كيفية الحفاظ على إرث علمي بمختلف صنوف العلوم والكتب النادرة والمخطوطات.
قصدت محافظ البصرة قبيل انهيار النظام السابق طالبة نقل الكتب الموجودة إلى مكان أكثر أماناً، للحفاظ عليها، إذ قام الدفاع الجوي التابع لنظام صدام حسين آنذاك بوضع قوة قتالية مقاومة للطائرات تعلو بناية المكتبة، ما أشعر عالية بأن الإرث الذي عملت على حمايته طيلة سنوات، لم يعد بأمان.
المحافظ لم يعر الموضوع أي اهتمام ولم يحاول تلبية أمنية عالية، لذا أقدمت على خطوة جنوبية بديلة، علماً أن النظام السابق كان يعاقب موظفيه عندما يقدمون على أي عمل خارج أدوارهم الوظيفية من دون الحصول على الموافقات الرسمية. خطوة كانت قد تعرضها للعقاب الشديد في تلك الحقبة، حتى طرحت فكرة تهريب الكتب على زملائها العاملين معها ليبدأوا بمساعدتها من دون تردد.
المكتبة المركزية في البصرة تأسست عام 1931. تقع وسط المدينة وبجوارها مطعم حمدان، والذي أصبحت أجزاء منه مخزناً لتهريب الكتب وتجميعها فيه، إذ قامت عالية بمساعدة آخرين بنقل الكتب على مراحل، من خلال وضعها في باحة صغيرة لا تلفت الأنظار تفصل بين المكتبة والمطعم، ومن ثم مناولتها الى من يقف في الجانب الآخر من المطعم والتأمين عليها، لعدم إثارة الجلبة والشكوك لدى القوات الأمنية وعسسها آنذاك.
باسمة عباس مسؤولة شعبة المخازن والإعارة حالياً في المكتبة المركزية رافقت عالية 22 عاماً في العمل المكتبي وكانت إحدى مساعداتها في نقل الكتب وتهريبها. تشرح الأدوار التي اشترك بها الجميع والذين ناهز عددهم الـ20 فرداً، إذ قام بعضهم بجلب أكياس كبيرة فضلاً عن الاستفادة من ستائر الشبابيك بعد وضعها على الأرض وترتيب الكتب فيها بشكل رزم ومن ثم ربطها ونقلها إلى المنازل.
عدد كتب مكتبة البصرة يقارب 30 ألفاً، تمكنت عالية ورفاقها، بحسب باسمة، من نقل ذات الأولوية والاهمية بينها، فكانت المخطوطات التاريخية في مقدمة ما تم الحفاظ عليه، ومنها كتاب يعود تاريخ كتابته إلى عام 897، وهو يختص باللغة، إضافة إلى كتب نادرة مثل “الفتوحات الإلهية” ومن ثم كتب المراجع.
ما ان دخلت القوات البريطانية إلى البصرة وهي إحدى القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية، حتى هرعت عالية مع زملائها من جديد إلى المكتبة لإخراج المتبقي منها في ظل فوضى عاشتها البصرة ومدن عراقية أخرى، إذ تمكنت من الحصول على شاحنتين صغيرتين لنقل المتبقي ليصل عددها إلى ما يقارب الـ6 آلاف كتاب توزعت بين منازل الموظفين في المكتبة بحسب باسمة، له قيمة علمية كبيرة ولا يمكن تعويضها إن وقع أي مكروه للمكتبة وسط الفوضى التي عاشتها البصرة.
عدد كتب مكتبة البصرة يقارب 30 ألفاً، تمكنت عالية ورفاقها، من نقل ذات الأولوية والاهمية بينها، فكانت المخطوطات التاريخية في مقدمة ما تم الحفاظ عليه .
توفيت عالية في 13 آب/ أغسطس الماضي عن عمر ناهز 68 عاماً بسبب مضاعفات وباء “كورونا”. تركت خلفها المكتبة التي أنقذتها من الحرب والإهمال.
صحيفة “نيويورك تايمز” نشرت مقالاً عنها خلال فترة دخول القوات البريطانية إلى البصرة ليكون ملهماً لكتاب أميركيين، إذ نُشر عنها كتابان، الأول قصة للأطفال تحت عنوان “المرأة التي أنقذت مكتبة البصرة” والآخر حمل عنوان “مهمة عالية”، وذكرت وسائل إعلام أنه تم تنفيذ عمل مسرحي عنها في السويد، إضافة إلى فيلم وثائقي في مصر.
عادت الحياة الى المكتبة المركزية بعد ان استقر الوضع الأمني في البصرة وتأهيل إحدى قاعاتها وإعادة الكتب التي حافظت عليها عالية مع زملائها، لتبدأ دور نشر عالمية وعربية برفد المكتبة بمنشورات جديدة. أما المؤسسات الحكومية فبقي دورها محدوداً في دعم المكتبة، وعلى رغم وجود تخصيصات مالية سنوية لرفدها، إلا أنها ليست بالمستوى المطلوب، فبعد مرور 18 سنة على إحراق المكتبة وتأهيلها لم يتجاوز عدد الكتب فيها حتى الآن 20 ألف كتاب.
عملت عالية في المكتبات المركزية منذ تخرجها من الجامعة المستنصرية في بغداد عام 1975 لتحمل البكالوريوس في علم المكتبات وتنتقل بين مكاتب الوحدات الإدارية وبعض المحافظات العراقية ويستقر بها الحال في مكتبة البصرة منذ عام 1989 وترفّعت في سلّمها الوظيفي حتى أحيلت إلى التقاعد.
وكعادة المسؤولين في العراق لا يُكّرم الناجحون والمبتكرون والمثقفون في حياتهم، إلا عند تقاعدهم أو بعد وفاتهم. فالحكومة المحلية في البصرة بعد 13 سنة على إنقاذها الكتب، قامت بتكريم عالية بدرع لا يتجاوز سعرها في الأسواق 10 دولارات أميركية. وقد أثنى رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في تغريدة له على دورها، مقدّماً التعازي بوفاتها، مؤكداً أن العراق “صاحب أول مكتبة في العالم سينهض عبر الحفاظ على تراثه وإرثه وأصالة قيمه الحضارية والإنسانية”. كما وصفها وزير الثقافة العراقي حسن ناظم بأنها “مثال طيب للأمانة والوطنية خلال مسيرتها المهنية”، مضيفاً أنها “حفظت 30 ألف كتاب ومخطوطة من الضياع أثناء توغل القوات البريطانية في البصرة عام 2003″، تغريدة الوزير تأتي متناقضة مع الرقم الذي تعطيه باسمة التي كانت شاهدة وشاركت مع عالية في مهمتها، إذ تقدّر عدد الكتب التي تم إنقاذها بنحو ستة آلاف كتاب، ليبدو من خلال هذه التغريدة حجم الجهل الحكومي بما يحصل في المكتبات الوطنية.
نقلا عن وكالة درج