تُفتح الستارة فيظهر النجم كورونا، إنه كالجوكر يمتلك القدرة على إضحاكِ الحضور وإثارة رعبهم في آن. ولكن! حين يمتزج الهلع بالسخرية في قِدرٍ واحد، يفقد الإنسان بوصلةَ مشاعرهِ الحقيقيّة.
يبدو»كوفيد 19» طفيلياً ذكياً، فهو استطاع، وفي وقتٍ قياسيّ، لا أن يثير الهلع والسخرية والتشّفي وحبِّ الحياةِ وحسب؛ بل أن يفتح باب الشّكِ على اتساعه وهذا هو المهم هنا. صحيح أنه يبدو تكراراً مملاً لنظرية روسو في الانتخاب الطبيعي، التي «تقضي فيها الطبيعة على الضعفاء وتترك الأقوياء»، لكنه وضع البشرية في مواجهة ذاتها؟ فهي الآن ما تزال تغصُّ بالصدمة، وتحاول استيعابها، لكن وفي وقت ما سيستيقظ مارد الأسئلة الوجوديّة والفلسفيّة قبل الطبيّة. فهل يمكن نكران المجازر المروّعة للحروب بإدارة العدسة نحو الأفكار والشعارات التي سوغت القتل؟ وهل نستطيع تجاهل الإتجار بالإنسان؟ هل يكفي أن نطلق أسماء حضاريّة على الجرائم التي ارتكبها الكائن الأنانيّ العصابيّ، المصاب بسعار القتل، لتجميل هذه الجرائم، من قبيل عقدة أوفيليا «تشّهي الموت» أو الساديّة وغيرها الكثير؟ لماذا الهلع إذن؟ ها هو الموت يأتي مجانيّاً،
أليس من الجائز أن يكون كورونا هو الدواء لداءٍ استفحل؟
طيب: من الممكن أن نكون نحن كورونا بالنسبة للأرض، «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» (سورة البقرة 30). ألم ننتهك الطبيعة ونحرق الأشجار بدون رحمة، كي نؤمن الفحم لرأس (الأركيلة)؟ ألم تمنحنا الأرض ثمرها وخضرتها، فبادلنا معروفها بزرع نفاياتنا النووية في رحمها؟ نحن الكائنات الشبيهة بوحش السيكلوب الذي يرى بعين واحدة، والطريف أنه «يمكن إعاقة هذه العين بسهولة» فحين يقع الظلم على من يخصنا تعلو عقيرتنا وحين نَظلِم يصيبنا العمى وننتهك اللغة لتجميل جرائمنا. رأى البعض في الوباء انتقاماً وعقاباً ممن طغى عليهم، يتساوى في ذلك التأويل من لاذوا بالأضرحة – حين خذلتهم الإرادة والحياة – ودعاة الثقافة والوعي، الذين يرون أن الحضارة كشفت أسوأ ما في الإنسان، عوراته النفسيّة؛ لكنّ الأكثر اعتدالاً يرونه وسيلة لتطهير نفوسنا المريضة من الانفعالات السوداء؛ من خلال إثارة الفزع والشفقة. أما المتشائمون فهم يرون فيه تأكيداً لنظرياتهم، المصبوغة بفلسفات ما بعد الحداثة ، فهو يضع بيننا وبين أقرب كائن، مسافة من الخوف، وتصبح النظرة (نظرة الآخر).. مريضة وتهدد وجودي بإعدامه، فما أن يقع أحدهم في شباكها حتى تتغذى به. وهناك من يرى فيه حركة ذكيّة من الطبيعة، كي تقلل من حجمنا، وبهذا فالطبيعة بحسب الباحث السوري نبيل فياض «متضايقة من البشر الذين سيدمرونها، فمن جهة التلوث، والانحباس الحراري، التزايد السكاني. وهي ذكيّة تتبع طرقاً وأساليب متعددة كي تخفف من حجمنا، بشذوذات أو أوبئة وكوارث.
والآن لماذا نغضب من كورونا؟
ربما كان فرصتنا لتصحيح الخطأ، فالأديان حاولت تدجيننا، فأخرجت الذئب فينا، وفشل كل من الأدب والفن في جعلنا كائنات نبيلة وسعيدة، بتحولهما إلى فنون وحيدة الخلية متمركزة حول ذاتها تحض على ثقافة المديوكر والاستعراض النرجسي. أخيرا لو كان لكورونا فمٌ لتكلم.
يبرز من جديد الجدل الفارغ بين العلم والدين، بين الكنيسة والمختبر. لكن هل العلم أكثر نزاهة من الدين؟ ألم يكن هو من قدم للسياسيين القنبلة الذرية؟ ثم من يضمن ألا يكون هذا القاتل المُلهِم من صنع مختبرات العلماء؟ إنّ شهادة العلم مجروحة، فقد تلطخت يده كما الدين بدم الأبرياء! كلاهما وعدا الإنسان بحياة أفضل، الدين وجّه بوصلته للسماء، والعلم صوّب سهمه للأرض؛ والشيء الوحيد الذي نجحا فيه بامتياز «إيقاظ الوحش فينا أو في أفضل الأحوال الفشل في ترويضه، ثم لماذا يقدم العلم نفسه منقذاً؟ ومنذ متى تعنيه الأرواح البشرية؟ إنّه مشبوه كعباءة رجل الدين. لكن الفيروس المُضحِك – الذي يستمد إلهَامه من الأدبِ والفن- لا يُضحك! لقد انحطت النباهة وارتفعت قيمة التفاهة، وتبين أنّ الأشياء الكبيرة تقوم على أسس تافهة منخورة ومتقيحة، كالحروب التي تشتعل بسبب المزاج السيئ أوارتفاع حموضة المعدة.
ارتدى البعض الكمامة، بينما رفض البعض الآخر ارتداءها؛ لأنه لا يريد لهشاشته أن تطفوعلى السطح. لكن الهشاشة تظهر للخبراء بلغة العيون والجسد – ولغير الخبراء- الهشاشة كالتفاهة تحيط بنا.
إنه لا يُضحِك بل يَضحَك منّا ومن حداثتنا الزائفة. وهو مستبد جميل ولن يرضى بالقليل من لحمِ هذه البشرية التي تدّعي أن حريتها في خطر، لكن متى كانت الحرية في أمان؟ إنّها مهدّدة على الدوام، مهدّدة بالطغاة، مهدّدة بالشر الذي يحمله حامل الحرية، حامل شعلة النار، الذي قد يخطر بباله أن يحرق العالم بها في لحظة جنون. هناك مراجعات كثيرة ستبدأ بعد انقشاع هذه المرحلة، الفلسفة والأدب سيعيدان صياغة لغتهما وترتيب أسئلتهما، ومن البلاهة الآن الاستعانة بسوبرمان نيتشه، وعدمية سارتر، ربما تعيننا سيريالية أندريه بريتون قليلاً. على النسوية الكارهة للرجل مراجعة أسسها. لقد تجاوز كوفيد 19 حلم المساواة التي شغلت الحركة النسويّة (feminism)! وها هو حلم ماركس بالمساواة بين الفقراء والأغنياء يتحقق، فمع هذه الكمامات تبدو الهشاشة جماعيّة، للثري والفقير، للمرأة والرجل، للعجائز الذين اكتشفوا فجأة أنهم فائض لا لزوم له، للأبناء الذين قالوا في لحظة انفلات فرحهم: إنّه يصيب العجائز، بعد العبث- والتفاهة- تختم الهشاشة هذه الحفلة بوليمة جماعيّة، تشبه تلك التي أقامها طاغية في إحدى الروايات، حين قدم لمعاونيه ومساعديه أجساد عائلاتهم كوجبة غداء.
ارتدى البعض الكمامة، بينما رفض البعض الآخر ارتداءها؛ لأنه لا يريد لهشاشته أن تطفوعلى السطح. لكن الهشاشة تظهر للخبراء بلغة العيون والجسد – ولغير الخبراء- الهشاشة كالتفاهة تحيط بنا. تتكون كل مأساة من عقدة وحل، والعقدة تبتدأ في البداية والنهاية والحل إما بداية للسعادة أو الشقاء. لقد فتح «القاتل الملهِم» الباب للأسئلة، وفي بادرة لافتة عَمدَ القاصُ المغربيّ المخضرم أنيس الرافعي إلى طرح تحليلات تأويليّة وأسئلة دلاليّة؛ في سلسلة لوحات يتشاركها مع متابعيه عبر فيسبوك. ويطلق عليها أرخبيلات الفزع ـ ديستوبيا الحجر الصحي ـ يكتب «حيث تنخفض الميتافيزيقا، وتصبح أقرب للإنسان، الذي تسلّط عليه هذا الفيروس؛ ليتركه بدون كسرةِ أمل، وكعلامةٍ ملغّزة لا تقبل التفسير. إنّه نظامٌ كاملٌ من القسوة وسيحفظ التاريخ هذه النظرة (الأسيانة -الشاردة، القلقة)» وينتهي القاص المغربي في قراءته الدلاليّة بالتساؤل عما إذا كان هذا «شهيق الفيروس أم زفير الأمل». وعن إمكانية أن يتحرر الوجه الأسير من الأخطبوط من يدري؟ وهل بإمكان المثالية والإنسانية الآن أن تنزع فتيل الموت، أم أن العالم يتدحرج صوب منتهاه وعاقبته الشنيعة.. الجواب: من يدري؟
وفي توصيفٍ لافت يرى الشاعر العراقي عامر الطيّب، أنّ «كل وباء يجرح اللغة» وماذا عن العناقات والقبل! يكتب «كلها أصبحت موضع شك! فلم يعد الشاعر قادراً على الكتابة عن القبل والعناقات. من دون أن يراوده الشك في أنّه يكتب عن علاقات ناقلة للوباء والموت».
فدوى العبود
نقلا عن: القدس العربي