لطالما أُثنِيَ على مسجد كاتدرائية قرطبة الإسباني باعتباره رمزاً معمارياً فريداً لالتقاء الشرق بالغرب؛ وذلك لأعمدته الرومانية الشاهقة، والفسيفساء المورية الفاتنة (نسبة إلى قوم المور)، ومئذنته المُحاطة ببرجٍ مُشيَّد على الطراز المعماري لعصر النهضة.
ولكن لسنواتٍ عدة، كان المسجد، المُصنَّف من قِبل منظمة اليونيسكو كموقع تراثٍ عالمي، محوراً لمعركة مِلكية شرسة، تتنافس فيها الكنيسة الكاثوليكية ضد علمانيين وإسلاميين وسياسّيين يساريّين يرون أن الأثر ينبغي أن ينتمي إلى الناس، لا لرجال الدين المسيحيين، وفق صحيفة التلغراق.
قبل عامين، أصدر 100 من العلماء والباحثين المتخصصين في قضايا التراث الإسلامي بـ10 دول، وثيقة شديدة اللهجة تدافع عن المِلكية العامة لمسجد قرطبة التاريخي في إسبانيا، وتُتهم الأسقفية التي تملكه حالياً بتجاهل أهميته واختطاف الذاكرة الخاصة به، وفق ما ذكره موقع “الجزيرة.نت”.
ومن بين المحتجين، ,وفق الموقع خبراء ومتخصصون من 36 جامعة في مختلف أنحاء العالم، ومؤرخون ومستعرِبون وباحثون في تاريخ العصور الوسطى، ومتخصصون في الفن من جامعات مشهورة بإسبانيا وخارجها.
والآن، بينما تجتمع لجنةٌ من الخبراء للتحقيق في المسألة، تصاعدت المعركة لتثير اتهاماتٍ مريرة بالتدخل الأجنبي.
فمن ناحية، تشير الكنيسة وحلفاؤها إلى يد قطر الخفية، ودورها فيما تراه “حلم المسلمين في استعادة مسجدهم”.
ومن ناحيةٍ أخرى، يزعم النشطاء أنَّ القساوسة الجشعين يثيرون الإسلاموفوبيا لدى الناس من أجل صرف الانتباه عن جرمهم في الاستيلاء على الموقع، وهو الجرم الذي وصفه النشطاء بأنَّه “أكبر فضيحة عقارية في التاريخ”.
الجدير بالذكر أنَّ تاريخ مسجد كاتدرائية قرطبة مُعقَّد ومتنازع عليه بشدة.
ففي قلبِ ما كانت يوماً الإمبراطورية الإسلامية بالأندلس، بدأ تشييد الكاتدرائية في القرن الثامن بعهد عبد الرحمن الأول حاكم الأندلس.
وفي القرن الثالث عشر، في المراحل الأخيرة لاستعادة الإسبانيين للأندلس من يد المسلمين، استولت الكنيسة على المسجد.
أما المعركة الحالية، فتعود إلى عام 2006، عندما استخدمت الكنيسة قانوناً جديداً يسمح لها بالتصديق على صكوك ملكية العقارات غير المسجلة.
وبتكلفة 30 يورو فقط (نحو 34 دولاراً أميركياً)، وفق تقرير التلغراف قام رئيس أساقفة قرطبة بالتصديق على امتلاك الكنيسة للموقع التراثي الذي لا يُقدر بثمن، وهو الأمر الذي لم يُكشف عنه إلا بعد 3 سنواتٍ من تاريخه بواسطة المجلس الإسباني الإسلامي، المنظمة غير الربحية التي كانت تنظم الاحتجاجات آنذاك طلباً لحقوق العبادة المشتركة في مسجد كاتدرائية قرطبة.
وهكذا، بدأت الحملة المدعومة الآن بواسطة الحكومة المحلية لاسترداد الكاتدرائية من أيدي الكنيسة وتحويلها لملكيةٍ عامة.
إلا أنَّ الكاتدرائية ليست هي الملكية الوحيدة المتنازع عليها، وذلك بحسب ما تقوله مجموعة “Coordinadora Recuperando”، وهي مجموعة العمل التي تعمل في هذه القضية، والتي تؤكد أنَّ الكنيسة الإسبانية سجلت ملكيتها لـ44 ألف عقار بإسبانيا، بعض هذه العقارات قيمته لا تُقدَّر بثمن.
فى اجتماعٍ عُقِدَ في وقتٍ سابق من هذا الشهر بمعهد هدسون، وهو مركز بحثي محافظ في واشنطن، زعمت مصادر دبلوماسية قريبة من الكنيسة أنَّ ممول هذه الحملة الحكومة القطرية.
وفق ما جاء في التلغراف، عملت الدوحة على دعم المجموعة الرئيسة المسؤولة عن حملة مجموعة “منصة مسجد كاتدرائية قرطبة”، وذلك عن طريق شركة محاماة تمتلك عدة مكاتب في لندن، ومدريد، والعاصمة القطرية.
وقد صرّح المونسنيور مانويل بيريز مويا، رئيس مجلس الكاتدرائية، لصحيفة التلغراف، قائلاً: “إنَّها ليست المرة الأولى التي نسمع فيها عن وجود صلاتٍ قطرية بهذه الحملة، يجب أن يأخذ المرء في اعتباره رمزية هذا المسجد الشديدة بالنسبة للعالم الإسلامي”.
ومن جانبه، أشار رئيس أساقفة قرطبة، المونسنيور ديميتريو فرنانديز، إلى “حلم المسلمين باستعادة معبدهم”، مصمماً على أنَّ هذا الموقع الأثري ملك للكنيسة منذ عام 1236، ولافتاً الأنظار إلى واقع أنَّ الأحكام السابقة كلها تصب في مصلحة الكنيسة.
وقوبلت هذه الادِّعاءات بالإنكار من قِبل كل من مجموعة منصة مسجد كاتدرائية قرطبة وشركة المحاماة المعنيّة، زاعمين بدورهم أنَّ الكنيسة تثير المشاعر المعادية للمسلمين؛ لصرف الانتباه عن مصادرة الكنيسة المُربحة لهذه الملكية العامة.
وصرّح أنطونيو مانويل رودريغيز، المتحدث باسم مجموعة العمل، بأنَّ رسوم الدخول لمسجد كاتدرائية قرطبة وحدها أثمرت 15 مليون يورو (نحو 16.8 مليون دولار أميركي) في العام الماضي كتبرعاتٍ معفاة من الضرائب.
وأضاف: “ما يحدث من نزاع ليس بمسألة دينية، ولكنَّه مصادرة غير مشروعة لتراثٍ عام يضخ أرباحاً ضخمة لم يتم الإعلان عنها”.
وأصر ميغيل سانتياجو، المتحدث الرسمي باسم منصة مسجد كاتدرائية قرطبة، على أنَّ المجموعة هي حركة تتكون فقط من مجموعة من المواطنين، وأنَّها لم تتلقّ أي تمويلٍ خارجي.
وأضاف أنَّه ليس لديه موقف فيما يتعلق بالعبادة في الموقع، مضيفاً أنَّ الكنيسة كانت تحاول تصوير النزاع على أنَّه “معركة بين الأديان”، وأنَّها توجه الاتهامات لقطر، مستغلةً أزمتها الحالية لتصدرها الرأي العام الدولي.
وصرّح ليون فرناندو ديل كانتو، مدير شركة المحاماة المعنيّة، لصحيفة التلغراف، بأنَّه أصبح منخرطاً في النزاع حول مسجد كاتدرائية قرطبة عام 2013 بصفته ناشطاً علمانياً إسبانيّاً، وذلك إثر محاولة الكنيسة حذف لفظ “المسجد” من اسم الموقع آنذاك، وهي المحاولة التي باءت بالفشل بعد تقديم التماس وقَّع عليه 370 ألف مواطن، وأكد أنَّ مزاعم تورطه في عملية استيلاء قَطرية على الموقع هي محض “افتراضات سخيفة”.
وأضاف ديل كانتو: “أشباح الحروب الصليبية وخرافات استعادة الأندلس يتم إحياؤها بطريقة صبيانية للغاية” من خلال تيار اليمين المتطرف داخل الكنيسة.
وأراضي قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، شكّلت يوماً ما دولة الأندلس.
وقال كارلوس أتشيفيريا، أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة الوطنية الإسبانية للتعليم عن بُعد، إنَّ الحملة الجارية لتحويل مسجد كاتدرائية قرطبة إلى ملكية عامة هي في الواقع “خطوة أولى في استراتيجية إسلامية جيدة”، وستؤدي حتماً إلى حق ممارسة العبادة المشتركة في الموقع.
وأصر المسؤولون بالحكومة المحلية على أنَّ الأمر الوحيد الذي تنظر فيه اللجنة هو ملكية هذا الأثر، موضحين أنَّ اليونيسكو قد صنّفته كموقعٍ للتراث العالمي تحديداً؛ لكونه رمزاً للتعايش الديني.
إلا أنَّ الكنيسة لا تزال مصرّةً على موقفها: وبغض النظر عن توصية اللجنة، ترى أنَّ الموقع لن يتحول أبداً لملكيّةٍ عامة.
كما أن الكنيسة لن تسمح أيضاً بممارسة الشعائر الإسلامية في الموقع، وهو الأمر الذي رفضه المونسنيور بيريز مويا؛ لكونه لا يتفق مع التكريس الكاثوليكي للمكان.
وفسَّر موقفه ذلك قائلاً إنَّ المسيحيين لم يكن يُسمَح لهم بالصلاة في المساجد أبداً، مضيفاً: “لا يمكنك المطالبة بأمرٍ لا تمتثل له”.
ويعد مسجد قرطبة -الذي بناه المسلمون في القرن الثامن الميلادي- من أكبر معالم قرطبة التي كانت مصدر إشعاع ثقافي آنذاك. وعندما استعاد المسيحيون السيطرة على قرطبة في القرن الـ13 أقاموا كاتدرائية وسط المسجد؛ وهو ما جعل المبنى الأثري يشهد خلافاً دائماً على تسميته.
وقد عمدت الأسقفية إلى طبع عبارات اختفى منها أي ذكر لمسجد قرطبة، كما تحمل اللافتات في الموقع السياحي عبارة “الأسقفية ترحب بكم في الكنيسة الكاتدرائية”.
المصدر : هافينيغتون بوست عربي