بيدين مقيدتين أمام الصدر وبسلاسل تجلجل ثقلاً يجرّ رتلاً من المعتقلين المرسلين من فرع “فلسطين”، أقوى فروع الأمن المعدّ للتحقيق والتعذيب والتغييب ومهمات آخرى لا يعرفها إلا الله، وبصيغة (الوديعة) أو ما يسمى (الأمانة)، يرسل المعتقلون السياسيون لسجن صيدنا العسكري، فيتم استقبالهم بما يسميه زبانية صيدنايا “قطار الفرح” كنوع من السخرية والاستهزاء بهم، وأسلوب قمع لا يخفى على متأصلين في الظلم، وذلك في محاولة قمع وإظهار هيبة سجن كانت أشهر مسمياته “التنين الأحمر”.
بغصة في الحديث ونفس عميق، روى لنا الشاب (عبيدة28 عاماً) من مدينة إدلب رحلة عذابه المريرة في “سجن صيدنايا” قائلاً “لم أشعر سوى بضربات موجعة عندما طلب منا الدخول للسجن، كنت مع رفاقي مقيدا بالسلاسل، السلاسل تجمعنا في رتل واحد، وبعيون معصوبة بقوة.. فقط نسمع أصوات السب والشتم وأوامر تملى علينا بأن نصدر أصواتاً “كالنهيق والعواء… عداك عن الضرب الذي انهال علينا من كل الجهات بسياط لا تعرف سوى النيل من جسدنا”.
لم يستطع الشاب الناجي من ظلمات السجون أن يكمل حديثه دون أن يشعل سيجارة ليخفف من غصته في الكلام وينفخ أنفاس الحزن جانباً.. ثم يتابع “كنا نتعثر على الأرض فتكون فرصة سانحة للزبانية للركل بأقدامهم الهمجية على الوجه والأعناق.. آه لم يكن ما بعدُ أرحم: فقد جمعنا في الممرات وأمرنا بالاستلقاء على الظهر ورفع القدمين لينال كل واحد منا 7 ضربات موجعة ومن لم يحتمل جسده.. يعاد عدّ الضربات من جديد.. آه كان ذلك ما سموه “قطار الفرح”: لحظات الاستقبال الأولى للسجين”.
“عبيدة” الذي خرج متظاهراً مع رفاقه ضد الظلم، ومطالبا بنيل الحرية والكرامة، ترك كرامته خارج السجن وبات بعيداَ كل البعد عن حريته المنشودة، أصوات غابت في ظلمات السجن، وأنين أناس غابوا عن الذهن وراء جدران علت مع ارتفاع صوت الحرية، انتهاكات تحصل في الداخل، ليست فقط على مستوى حقوق الإنسان، بل تعدت حدود الإنسانية جمعاء، وكون المعتقلين ورقة بيد النظام مسخرة لصالحه، في أي وقت تكمن قدرته في تمزيق تلك الورقة بسياسة (التصفية).
تابع الشاب كلامه الذي لم يعد حتى بمقدورنا نحن الاستماع له “انتقاماً لانتصارات الثورة على الأرض، وقف النظام كالعاجز يتشفى بمن هو أضعف منه (وقديما قيل حكم الضعيف على القوي حكم وذل بوقت واحد)، ممن لا حول لهم ولا قوة: ففي أغلب الأحيان ترسل بطاقات شخصية للسجناء بعد تصفيتهم بالتعذيب أو الرصاص أو حتى الإهمال الصحي، فيكتب في تقارير الوفاة (تشكيلة متنوعة) من الأمراض الجاهزة لتلتصق بالمعتقل وتبريرا لموته، وبالطبع لا تسلم جثته (كالعادة) ويدفن في حفر جماعية مع من شاركه رحلة العذاب، ليكونا شاهدين مغيبين على ظلم لا بد من أن ينتهي يوما”.
غابت دموع الشاب “عبيدة” ورفاقه يوماً بعد يوم، بعد أن خفت صوت الإعلام عنها، لكن لا بد من دعاء متواصل يخترق تلك الجدران العالية، وبأعجوبة نجا ذلك الشاب مع قلة من رفاقه، (مولوداً جديداً) بعد فقده في السجن لسنين لم يستطع أن ينسى حتى هذه اللحظة.. معتقلينا يا وجعنا الكبير..
المركز الصحفي السوري – بيان الأحمد