كشفت الحرب بل الحروب الجارية على الارض السورية، المستمرة منذ ست سنوات، عن الازمة العميقة التي تهز نظام العالم الذي ولد من حربين أوروبيتين او بالاحرى حربين غربيتين سميا عالميتين، انهيا عصر الحروب القارية وكرسا في الوقت نفسه السيطرة الغربية على العالم. فخلال العقود الست أو السبع الماضية تبدل وجه العالم، ونمت قوى كثيرة في القارات الثلاث الكبرى، وتطورت اقتصاداتها وقواها العسكرية ومشاركتها الدولية ونفوذها بعد أن لم يكن يحسب لها حساب، كما غيرت ثورة المعرفة والمعلوماتية نمط تفكير الأجيال وتطلعاتها، بينما حافظ نظام نهاية الحرب العالمية الثانية العالمي المجسد بمنظومة الأمم المتحدة على نفسه كما كان. وبمقدار ما عجز هذا النظام المتجمد كما هو متوقع عن ترجيع صدى التغييرات الكبيرة والحثيثة التي جرت في توزيع القوة وتطور المصالح وغطى على التناقضات الوليدة والمتفاقمة وأخفق في المساهمة في ايجاد الحلول الملائمة لها، كما هو متوقع من أي منظومة سياسية قانونية، خلق التربة المناسبة لانتشار الحروب والنزاعات الداخلية والإقليمية التي اصبح من الصعب السيطرة عليها، وفي أحيان كثيرة كان هو نفسه المشجع على مثل هذه النزاعات والمغذي لها من اجل تفريغ التناقضات المستعصية على الحل في حروب جانبية، أو موازية، يمكن التحكم بها، بل والاستفادة منها لتخفيف الضغوط على النظام الدولي وتثبيته ودعمه. ومن بين هذه الحروب حروب الشرق الأوسط الكثيرة، وآخرها الحرب السورية التي تكاد تقتفي اثر الحرب العراقية وتتحول إلى فوهة بركان دائم الاشتعال لخفض مستوى التوترات الإقليمية والدولية. لكن الحرب السورية التي تكثفت فيها وتقاطعت أيضا حروب عديدة، إقليمية ودينية وقومية ومذهبية وعالمية لم تكشف اختلالات النظام الدولي فحسب، ولكنها لعبت ولا تزال دورا كبيرا في تعميقها وتفجير تناقضاته. يتجلى ذلك في الانقلاب الزاحف على نموذج العالم المنظم والمتضامن والعادل الذي وعدت به الدول المنتصرة البشرية، بعد الحرب العالمية الثانية، وحاولت أن تكرس قواعده في مواثيق الامم المتحدة الكونية والشاملة، وفي مدونة حقوق الانسان، ومن العودة إلى تأكيد منطق القوة على حساب القانون، والتمييز العنصري على حساب المساواة، ومبدأ السيطرة بالقوة بدل الحرية، وبالتالي المخاطرة بالاستثمار في المزيد من الفوضى والعنف بدل السعي إلى وضع المزيد من الاتساق داخل النظام. كيف حصل ذلك؟.
كانت القومية والراسمالية اللتان ازدهرتا في القرن التاسع عشر والعشرين، أكبر قوتين وحركتين وعقيدتين ونظامين ساهما، بعد النزعة الانسانية للقرن السادس عشر، في توليد العالم الجديد، الحي والديناميكي، على أنقاض الماضي التقليدي، البطيء والجامد. وكان لهما الفضل في تحديثه، والوصول إلى ما نسميه اليوم بالحداثة أو العالم الحديث. ومن دونهما لا نعرف كيف كان سيكون عليه مصير العالم.
وبهذا المعنى كانت القومية والرأسمالية تمثلان قوة تقدمية بالمعنى التاريخي الحديث، الذي يمكن تلخيصه في توسيع دائرة سيطرة البشر على مصيرهم، وتحقيق أوسع هامش مبادرة لهم في مواجهة قوانين الطبعية الجائرة، أو نظامها الخارج عن إرادة البشر، وكذلك في توسيع دائرة سيطرة الفرد وهامش مبادرته أيضا داخل نظم اجتماعية بقيت هي نفسها جامدة، حبيسة التقاليد والقيم الثابتة والمقدسة العصية على التجديد لقرون طويلة.
أما اليوم فهما تمثلان القوتان الأكثر محافظة ورجعية في تاريخ البشرية الحديثة، ويشكلان المصدر الأكبر للبربرية الزاحفة وإعادة العالم إلى عصور عبودية من طراز جديد، تختلط فيها قيم الاحتقار والعنصرية والكراهية والتمييز بين البشر مع خطاب يتم تجويفه باستمرار حتى يكاد يتحول إلى ورقة توت، عن الحقوق الانسانية، الفردية والجماعية. وكلاهما يتحملات المسؤولية الرئيسية عن انتاج الشروخ والتصدعات المتزايد التي يكاد من الصعب تصور امكانية تجاوزها ووقف آلية تحطيم الانسان في داخل النظم الاجتماعية الخاصة وعلى مستوى النظام الدولي المتحكم بها، وبالتالي تجنب خطر القضاء على مستقبل المدنية الحديثة التي نشأت في حجرهما . وتكاد الحالة السورية تمثل ذروة هذه البربرية التي أصبحت العدو الأول لهذا النظام الدولي والضامن له في الوقت نفسه.
والسبب ان القومية التي ولدت مفهوم الامة وما تضمنته من ثورة سياسية ومفاهيم في السيادة والحرية والمواطنة والمشاركة الديمقراطية، من خلال فرضها نموذج الدولة السيدة وفصلها السلطة الزمنية عن السلطة الروحية، أي في الواقع تحطيم أساس الاستبداد القائم على تماهي السلطة المركزية للدولة والعقيدة أو الدغما العقائدية، وتحديدها حقوق الدول والمجتمعات، ووضعها قواعد التعامل في ما بينها، بصرف النظر عن عقيدة الجماعات والأفراد التي تقطن تحت سقفها، أي بعد أن كانت الحاضنة لانتاج أكثر تنظيمات المجتمعات الانسانية تقدما بالمقارنة مع ما سبق من نظم اقطاعية أو ملكية أو سلطانية أو امبرطورية، تحولت، وبشكل أشد فأشد، إلى إطار لتقسيم العالم الذي وحدت تطلعاته وطموح شعوبه، بين قطبين: الأول مسيطر ومتحكم بالقوة العسكرية والعلمية والتقنية والمالية، حر وقانوني، وقطب ثان يمثل معظم المجتمعات البشرية أو أكثريتها يعيش تابعا فقيرا مستلب الإرادة تجاه الخارج والداخل معا، لا أمل له ولا مستقبل. وهي تدفع به بشكل أكبر اليوم نحو تجاوز الاستقطاب الثنائي إلى التشظي والتبعثر والانحلال.
والسبب أن القومية التي بنت الدولة الأمة التي خلقت شروط تحرير الفرد وتحويله من رعية إلى مواطن مشارك في تقرير مصيره الفردي والجماعي هي نفسها التي رسخت سياسات الأنانية القومية والاستهتار بمصير الدول والامم الأخرى ومستقبلها. فبمقدار ما عمقت الشعور بالمسؤولية لدى القادة المركزيين تجاه امتهم وشعوبهم، حرمتهم من أي تعاطف أو تفهم لمصالح الشعوب الأخرى، بل جردتهم من أي إحساس بالمصائب التي تواجهها أو المساعدة على حلها، وبررت لنفسها جميع المخططات والاستراتيجيات والحيل السياسية والقانونية والاخلاقية التي تشرعن نهب موارد الدول الأخرى والتحكم بمصيرها واستتباعها ووضعها في خدمتها. وفي سبيل منع المجتمعات المنافسة من الدخول في دائرة الحداثة الفعلية والفعالة عملت كل ما تستطيع لإجهاض نهضتها والتفريق بين عناصر قوتها المادية والبشرية، في سبيل ان تحتفظ لوحدها بالسيطرة العالمية وتضمن لأطول فترة ممكنة تفوقها وهيمنتها وتبعد عن نفسها أي منافسة جدية. ولم تنجح في كسر قاعدة الهيمنة هذه إلا المجتمعات والشعوب الكبيرة والراسخة في الحضارة التي كانت من القوة والانتشار بحيث تملك هامش مناورة استراتيجية استثنائية، وتنتصر في امتحان القوة التاريخي الذي اتخذ في حضارة كالصين شكل حرب تحرير طويلة دامت عقودا، أو بعض الشعوب التي وافتها ظروف استثنائية ونجحت، بعد قرن من المناورات والحروب والنزاعات الداخلية والخارجية في وضع أسس النهضة الحديثة، قبل أن تتحول هي نفسها أيضا إلى دول قومية امبريالية. باختصار، إن الدولة الأمة التي حررت المجتمعات في جزء كبير من المعمورة ومكنتها من تقرير مصيرها والتعبير عن إرادتها هي نفسها التي حلت عرى أكثر المجتمعات وفككتها عبر الاستعمار وبعده وحكمت عليها بالدخول في أزمة فكرية وسياسية واقتصادية دائمة، وأدانتها بالبقاء في قفص الديكتاتورية والاستبداد والطغيان.
أما الرأسمالية التي فجرت طاقات الاقتصاد السياسي من خلال تطوير روح المبادرة والاستثمار المنتج، وأطلقت في إثرها وأخصبت في حضنها ثورة تقنية وعلمية ومعلوماتية عالمية، فقد تحولت إلى أكبر عامل في اجتياح الاقتصادات الأخرى وإغلاق افق التحول لدى الشعوب والمجتمعات التابعة واستخدام ثرواتها البشرية والمادية من أجل دعم نموها الخاص وتقدم مجتمعاتها. وقد تحولت بشكل مضطرد إلى قوة أمبريالية تتغذى من المضاربات المالية والسياسية، فتضعف فرص الشعوب في بناء اقتصادات منتجة وتحرم أغلب سكان المعمورة من حقهم في التحرر والسيادة والتنمية الطبيعية.
الزواج المثير بين القومية أو الدولة الأمة والرأسمالية ولد منذ ثلاثة قرون ظاهرة أمبريالية، او نظام سيطرة عالمية متداخلة، غير مسبوق في قوته ووحشيته، في أي حقبة، نظام عالم على المستوى نفسه من الانقسام والتناقض والتبعثر والاستقطاب على كل المستويات وفي كل الميادين. ولم يحصل ان وجد قبله عالم عرف مستوى من الثراء والتقدم التقني والعلمي وتجمع القوة وتمركزها، وفي الوقت نفسه اتساع دائرة الفقر والبؤس وهشاشة شروط الحياة وفقدانها أي معنى عند مليارات البشر، كما يحصل في عالمنا اليوم. وإذا لم تحصل معجزة واستمر التنافس من دون معايير ولا حدود واستمر سعي الأمم كل لانقاذ نفسها من دون سؤال عن مصير الكل العالمي، كما يحصل اليوم في الولايات المتحدة وروسيا، ويتجلى في سورية المدمرة، فلن يكون هناك مخرج آخر سوى الانتحار الجماعي ودفع العالم إلى الجنون والانفجار. فالدينامية التي دفعت الأمم من منطلق المصلحة القومية والأنانية إلى التنافس ومراكمة الموارد والارباح وتعزيز السيطرة على رأس المال، هي نفسها التي وقفت منذ قرنين ولا تزال تقف ضد أي مشروع انساني جماعي يهدف إلى مساعدة الدول الفقيرة والشعوب التي زعزع استقرارها وحطم توازناتها ودمر اقتصاداتها وقوض مسار تقدمها الاستعمار قبل أن تحول دون بنائها القومي والراسمالي الهيمنة الدولية او تحول القومية والرأسمالية إلى امبريالية عالمية. وتكاد هذه الدول الفقيرة، مع تصميم القوى الأكبر على تركها تتخبط في أزماتها ونزاعاتها وحروبها الداخلية والبينية نتيجة بؤسها، تفقد أي أمل للخروج من مأزقها وتأمين الموارد والخبرات والكفاءات لتأهيل نفسها للحياة ضمن مجتمع الحداثة والتقدم التقني والعلمي.
العربي الجديد-برهان غليون