ما إن توقف قصف الطيران والبراميل المتفجرة وآلة القتل الروسية الإيرانية الأسدية – ولو بشكل جزئي – حتى هرع الناشطون والثوريون، وحتى القادة الميدانيون، إلى الساحات والميادين العامة في مظاهرات سلمية عادت بالذاكرة إلى الأيام الأولى لانطلاقة الثورة السورية عام 2011، التي بدأت حراكا شعبيا سلميًا، واستمرت كذلك لفترة جاوزت سبعة أشهر، إلى أن دفعها نظام بشار الأسد إلى العسكرة دفعًا، واضطرها للمواجهة المسلحة اضطرارًا، تنفيذًا واستجابة لاستراتيجية إيرانية خبيثة هدفها دفع الحراك الشعبي السلمي السوري للعسكرة، واتخاذ ذلك ذريعة للتدخل العسكري المباشر في سورية. حيث عمد النظام إلى استخدام القوة المفرط، بإطلاق الرصاص الحي على صدور المتظاهرين المدنيين العارية، فقتل المئات واعتقل الألوف الذين تعرضوا لحملات تعذيب وحشي لم تشهد البشرية له مثيلًا، مما دفع قسما من الشباب الثوار إلى حمل السلاح الخفيف دفاعًا عن تلك المظاهرات السلمية. لكن النظام صعد المواجهة، ورفع وتيرة القتل بشكل تدريجي، وبطش بطريقة جنونية ضاربًا عرض الحائط جميع الوساطات والمبادرات العربية والدولية للمصالحة والحل السلمي.
كما أن استراتيجية نظام الأسد التي اعتمدت على المواجهة العسكرية وضعت الأحرار من ضباط الجيش السوري وجنوده أمام خيارين لا ثالث لهما، إما الانشقاق عن الجيش ثم مواجهته عسكريا، أو إطلاق النار على أهلهم المتظاهرين من المدنيين العزل، فاختار أكثرهم الانشقاق والانحياز لصف الشعب والثورة، ليتم بعدها تشكيل نواة الجيش السوري الحر.
حرص السوريين وتشوقهم وحنينهم للعودة بثورتهم إلى طبيعتها الشعبية السلمية حقيقة قطعية لا تقبل الشك، تجلى ذلك بوضوح من خلال عودتهم السريعة للتظاهر السلمي عقب دخول الاتفاق بين الروس والأمريكان على وقف الأعمال العسكرية في سورية حيز التنفيذ، حيث انطلقت في أول جمعة أعقبت هذا الاتفاق عدة مظاهرات في ريف درعا تحت مسمى “لن نقبل إلا بسقوط الأسد”، ثم عمت المظاهرات مدن بصرى الشام ونوى والحراك وبلدة الجيزة، تبعتها المناطق الأخرى التي تقع خارج سيطرة نظام الأسد وأشباهه، مثل تنظيم PYD وتنظيم داعش.
المظاهرات لم تقتصر على محافظة درعا وبلداتها، بل شملت حلب بأحيائها وريفها، وإدلب مع ريفها وبلداتها، حيث رفع المتظاهرون لافتات ورددوا هتافات تدعو الثوار إلى رص الصفوف وتحقيق أهداف الثورة في القضاء على نظام الأسد، كما أكدوا على رفض المصالحات مع نظام الأسد مقابل توقف القصف. وكانت من أبرز الشعارات التي رفعها الناشطون هي، “الإرهاب لا دين له والأسد داعم الإرهاب في العالم”، “الثورة مستمرة حتى تحقيق أهدافها”، “شهداؤنا أمانة في أعناقنا ولن نساوم على دمائهم”، “طريق النصر بوحدة فصائل الجيش الحر”، “لا للمصالحات مع نظام الإجرام”.
لقد عبرت التظاهرات السلمية عن تجذر روح الثورة في نفوس السوريين، فهي بالرغم من القصف والدمار والدماء تعود لتتألق من جديد في الشوارع والساحات والميادين، ولتنبض بهتافات الحرية والكرامة، ورفض المصالحات والمبادرات الزائفة التي يهدف نظام الأسد من خلالها إلى تشتيت الثوار وشق صفوفهم وخلق النزاعات بينهم.
بعد خمسة أعوام من عمر الثورة ها هي حناجر المتظاهرين تعود لتصدح من جديد، لتصرخ في وجه العالم المنافق: “في سورية ثورة شعب سلمية، تطالب بالكرامة والحرية… ليس نزاعا على السلطة، وليست حربا أهلية”… ستستمر الحناجر بالهتاف من أجل الحرية والكرامة، مجسدة إرادة الشعب السوري الحية التي لا تموت.
محمود عثمان – ترك برس