ليس من شك في أن سقوط القدس في أعقاب هزيمة يونيو/حزيران 1967 كان كارثة كبرى حققت للصهاينة أعظم أهدافهم منذ تحققت الأطماع الصهيونية على أرض فلسطين عام 1948، وقد عمل المحتلون منذ اليوم الأول للاحتلال على ترسيخ الأمر الواقع في المدينة المقدسة بشكل استباقي للقرارات الدولية التي صدرت عن مجلس الأمن من خلال القرار 242 بعد ذلك بأربعة أشهر والذي لا يعترف بالاحتلال وتداعياته على الأرض المحتلة، ومع ذلك شرعت باتخاذ سلسلة خطوات تمثلت فيما يلي:
أولاً: إعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل أي إلحاق القدس الشرقية التي سقطت عام 1976 بالقدس الغربية التي تم تهويدها عام 1948.
ثانياً: تهويد حائط البراق وتسميته رسمياً حائط المبكى ضاربة بعرض الحائط قرار عصبة الأمم عام 1929 باعتبار الحائط وقفاً إسلامياً وجزءاً أصيلاً من الحرم القدسي، وذلك في أعقاب المذابح التي جرت آنذاك احتجاجاً على محاولة اليهود تهويد الحائط.
ثالثاً: الشروع الفوري بهدم حي المغاربة وحي شرف الفلسطينيين على الحائط الغربي للمسجد الأقصى لإقامة المساحة المخصصة لحائط ما يسمى المبكى تكريساً لتهويد حائط البراق.
رابعاً: البدء الحثيث بسلسلة عمليات من الحفريات الإسرائيلية داخل البلدة القديمة، خصوصاً حول وأسفل الحرم القدسي للبحث عن آثار الهيكل المدمر منذ آلاف السنين.
خامساً: اتخاذ الإجراءات العاجلة لتوسيع مساحة المدينة المقدسة وإطلاق خطة القدس الكبرى التي تمتد على مساحة 600 كم2 (10% من إجمالي مساحة الضفة الغربية) لتمتد من بيت شيمش (ديرابان) غرباً حتى أريحا والبحر الميت شرقاً، ومن كفار عتصيون جنوبا (الحدود الشمالية لمحافظة الخليل) حتى رام الله شمالاً.
سادساً: قيام حثالات المحتلين من جنود ومستوطنين بتدنيس السجد الأقصى والاعتداء على المصلين والهتاف في أرجائه: محمد مات وخلف بنات، وقد حرص موشيه دايان وزير الحرب آنذاك على التقاط الصور التذكارية أمام قبة الصخرة وصرح بوقاحة بأن احتلال القدس يمهد الطريق الى خيبر حيث كان يقطن أجدادنا من بني قريظة وبني القنيقاع وبني النضير.
سابعاً: فرض عقوبات على المقدسيين الذين تمسكوا ببيوتهم ومتاجرهم بإلزامهم منذ اليوم الأول للاحتلال بدفع ضرائب الارنونا الباهظة عن أملاكهم وفرض القوانين الإسرائيلية عليهم كأنهم مواطنون إسرائيليون لا يتمتعون بالمزايا بل ينالون العقوبات فحسب.
ثامناً: مصادرة أملاك الغائبين والعقارات التي يدعي الصهاينة أنها تعود ليهود على الفور والاستيلاء على آلاف الدونمات لإقامة أحياء استيطانية.
تاسعاً: تدمير قرى عمواس ويالو وبيت نوبا، وهي القرى الثلاث التي بقيت من بين قرى القدس الغربية التي شرّد سكانها وهدمت منازلها عام 1948 ليستكمل المحتلون تهويد كامل المدينة.
عاشراً: تطويق المدينة المقدسة بطوق أمني من كافة أرجائها ومنع التواصل بينها وبين سائر أرجاء الضفة الغربية وفي وقت لاحق إقامة الجدار العنصري العازل.
لكن الهاجس الأكبر الذي كان يراود القادة الصهاينة هو العامل الديمغرافي الأمر الذي دفهم الى توطين مئات آلاف من المستوطنين في المدينة المقدسة سعياً لإحداث التوازن الديمغرافي.
لذا لم تهدأ ماكينة التهويد بعدما استقر الأمر لهم وواصلوا إجراءاتهم المستفزة في المدينة القائمة على قاعدة الاقتلاع والإحلال حتى أمكن لهم إعلان مخططهم التهويدي الشامل للمدينة عبر مشروعهم الاستيطاني الضخم المسمى القدس الكبرى الذي تم وسط عجز عربي وإسلامي وصمت دولي وتواطؤ غربي حتى تمكنوا من بناء 34 مستعمرة “إسرائيلية” في القدس الشرقية شكلت حزامين حول القدس، الأول الحزام الداخلي في داخل القدس الشرقية وعدد مستعمراته 16، والثاني الحزام الخارجي خارج حدود القدس الشرقية وعدد مستعمراته 18، وتحتل المستعمرات ما مساحته 38 كم2، بالإضافة الى ذلك فقد تم إنشاء 18 موقعاً استعمارياً عشوائياً وشق الطرق الالتفافية التي أقيمت في داخل القدس وحولها لربط هذا المستعمرات بعضها بالبعض الآخر بطول إجمالي بلغ حوالي 91 كم ما يتسبب في عزل المدينة عن محيطها الفلسطيني وتكريس قطع الضفة الغربية الى نصفين.
وفي غمرة التحريض والتعبئة العنصرية التي لم تتوقف في أوساط المستوطنين وأطفالهم عبر المناج المدرسية والإعلام المضلل والروايات الكاذبة المتوارثة لم يستسغ غلاة الصهاينة بقاء الحرم القدسي في أيدي المقدسيين وشرعت منظماتهم العنصرية ببث مقولات أن الحرم قائم على أنقاض هيكل سليمان ساعدهم في ذلك تبني النصوص التاريخية والجغرافية الغربية للمقولة نفسها من خلال إطلاق لفظ جبل الهيكل Temple Mounten على الحرم القدسي الذي يعتبر وقفاً إسلامياً كاملاً.
وقد مهدت هذه الخلفية التحريضية العنصرية لخلق جيل مهووس بهدم الأقصى وقبة الصخرة جسّده المستوطن الأسترالي مايكل دينس روهن الذي نفذ جريمته في يوم 8 جمادى الآخرة 1389هـ – 21 أغسطس/آب 1969م بإقدامه على إشعال النار في الجامع القبْلي في المسجد الأقصى، حيث أتت النيران على منبر صلاح الدين بالكامل وبعض الأروقة والأعمدة داخل المسجد.
فهبّ أبناء القدس هبة عظمى يحاولون بجهدهم اليدوي أن يطفئوا النيران ويمنعونها من الامتداد، وانتظروا أن تصل سيارات الإطفاء التابعة لبدية القدس الإسرائيلية، لكنها تلكأت بالحضور حتى لا تشارك في إطفاء الحريق، الأمر الذي يؤكد تواطؤ الاحتلال مع المجرم، علاوة على قيامه بقطع المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد في نفس يوم الحريق، ما دفع المقدسيين للاستنجاد بسيارات الإطفاء من المدن المجاورة في رام الله وبيت لحم والخليل لتسهم في إطفاء الحريق وتحول دون امتداده الى كافة أرجاء المسجد.
وقد ألقت إسرائيل القبض على الجاني، وادعت أنه مجنون، وتم ترحيله إلى أستراليا، وما زال يعيش حتى الآن في أستراليا وليس عليه أي أثر للجنون أو غيره.
لقد هزت الجريمة مشاعر المسلمين في أصقاع الأرض وخرجت العواصم العربية والإسلامية بتظاهرات تطالب بتحرير القدس وتخليص الأقصى من براثن المحتل ما دفع الى تنادي القادة المسلمين لعقد أول قمة إسلامية تمخض عنها إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التى تغير مسماها الى منظمة اللتعاون الإسلامي.
واليوم وبعد 47 عاماً من الجريمة لم يعد موضوع القدس يحتل المرتبة الأولى في أجندات القمم العربية والإسلامية، ولم تعد قضية القدس تحظى بالاهتمام الإعلامي اللازم في غمرة الانشغالات العربية بالجروح الدامية التي تفتك بالجسد العربي وتعطي لإسرائيل فرصتها الذهبية لتكريس مجدها في أرضنا المقدسة.
ونحن في مبادرة “إعلاميون من أجل القدس” نعول على وسائل الإعلام العربية لإيلاء هذه القضية ما تستحقه من اهتمام لا ينسي أجيالنا الطالعة أهمية القدس في الوجدان العربي والإسلامي، وكلنا أمل أن يسهم الإعلاميون المخلصون في وسائلهم التقليدية أو في مواقع التواصل الاجتماعي بأداء دورهم الحضاري أولاً لتلبية نداء القدس نصرة لأهلها وتثبيتا لصمودهم وتشبثهم بحقهم الى أن يعود الحق الى أصحابه الشرعيين.
وإذا ما استنكف إعلاميونا عن أداء رسالتهم الحضارية والوطنية والقومية والدينية ونهجوا درب السياسيين المتهربين من التزاماتهم إزاء القدس وهرولتهم نحو أعداء الأمة فإننا مهددون جميعاً ليس بتهويد الحجر بل بتهويد البشر وما ينطوون عليه من عقول وقلوب وتبديد حقوقنا الراسخة.
فلا تجعلونا نقول على هذه الأمة السلام بل لنقل ليحل الله بقدرته على هذه الأرض ما تستحقه من سلام.