قبل بضع سنوات، كانت آفاق الطاقة النووية في منطقة الشرق الأوسط في تراجع دائم. لقد جعل عدم الاستقرار السياسي الاستثمارات طويلة الأجل في البنية التحتية النووية المدنية محفوفة بالمخاطر. مصر، على سبيل المثال، كانت في المراحل الأخيرة من دراسة عروض إنشاء مفاعل نووي عندما بدأت الانتفاضة الشعبية في عام 2011. وسرعان ما تمّ وضع هذه الخطط على الرف من قِبل الحكومات الانتقالية اللاحقة. وانهيار مفاعل فوكوشيما داييشي في اليابان عام 2011 هزّ ثقة الشعوب في جميع أنحاء العالم إزاء سلامة الطاقة النووية وأثار تساؤلات حول مستقبل هذه الصناعة. ولكن الآن، على الأقل في الشرق الأوسط، يبدو أنَّ الطاقة النووية عادت بشكل جديد. في أبريل الماضي، أعلنت شركة “روساتوم” الروسية أنها قد افتتحت فرعًا جديدًا في دبي، بالإمارات العربية المتحدة. سيعمل المكتب الجديد على الإشراف على العديد من مشاريع الطاقة النووية في مصر وإيران والأردن وتركيا. وهناك أمل في أن الوجود الإقليمي الروسي من شأنه أن يفتح آفاقًا جديدة للصناعة النووية في المنطقة.
ويأتي افتتاح مكتب روساتوم الجديد في وقت مناسب تمامًا. لقد أصبح الشرق الأوسط الآن موطنًا لأكبر عدد من “الوافدين الجدد في المجال النووي” في العالم، مع ستة بلدان على الأقل تسعى بنشاط لامتلاك طاقة نووية. في عام 2011، أصبحت إيران الدولة الأولى في المنطقة التي تشغل مفاعل نووي. وتشمل خطط طهران على المدى الطويل التوسّع الطموح لقدرات الطاقة النووية من خلال إنشاء ثمانية مفاعلات إضافية، وهو ما تجاوزته طهران بعد الصفقة النووية الأخيرة.
كما بدأت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بتطوير الطاقة النووية في عام 2010 و2009، على التوالي. وتتحرك كلا البلدين من خلال الجهود المبذولة لتنويع مصادر الطاقة، وكذلك استخدام الطاقة النووية باعتبارها رمزًا لمكانتهما في سياق التنافس الاستراتيجي مع إيران.
المملكة العربية السعودية لديها خطط نووية طموحة تهدف إلى بناء 16 مفاعلًا نوويًا بحلول عام 2032. أما الإمارات العربية المتحدة فقد بدأت بالفعل بناء أول مفاعل نووي، ومن المتوقع الانتهاء من عملية البناء في عام 2017. وقد أحيت مصر أيضًا خططها لبناء سلسلة من مفاعلات الطاقة النووية في منطقة الضبعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. كما انضمت تركيا والأردن في بناء مفاعلات الطاقة النووية التي من المتوقع أن تكون جاهزة بحلول عام 2020 و2025، على التوالي.
في ظلّ هذه المساعي، تتطلع حكومات الشرق الأوسط إلى مزودي التكنولوجيا النووية، وأفضل الممارسات التنظيمية وفرص التدريب. على مدى السنوات القليلة الماضية، تزايد عدد اتفاقيات التعاون النووي بين الحكومات الإقليمية والموردين المحتملين. وكانت الدولة الأكثر استفادة من العقود هي روسيا، التي اتبعت استراتيجية تصدير فريدة وخطط طموحة في جميع أنحاء المنطقة
ولكن في ظلّ تفكير المنطقة في مستقبلها النووي، يشهد السوق النووي العالمي تحولًا كبيرًا؛ حيث تضخ الصين والهند وروسيا استثمارات كبيرة في البنية التحتية النووية المحلية. بكين، على سبيل المثال، في المراحل المبكرة من وضع استراتيجية لتصدير تقنيتها الأصلية. وروسيا، من ناحية أخرى، تبرز نموذجها المتطور والموجّه للتصدير للمساعدة على نمو أعمالها النووية. ومع ذلك، فإنَّ نموذج الأعمال في روسيا هو مصدر جذب فريد لحكومات الشرق الأوسط. شركة “روساتوم” على استعداد لبناء وامتلاك وتشغيل المفاعلات النووية، وبيع الكهرباء التي تولّدها للدول بأسعار مضمونة. وقد وعدت روسيا أيضًا بتوفير فرص التدريب والتعليم في مجال التكنولوجيا النووية للفنيين المحليين، وسوف تساعد على خلق فرص عمل.
هذا النموذج له فوائد واضحة لكلا الجانبين. يحصل شركاء الروس في المجال النووي على تمويل صديق للبيئة ومستدام من الكهرباء، إلى جانب تجنب بعض تكاليف البناء الباهظة التي أثنت الحكومات عن السعي وراء امتلاك الطاقة النووية في الماضي. تستفيد موسكو من بيع الكهرباء واستخدام سلسلة التوريد الروسية للبناء، وترسّخ العلاقات الاقتصادية الحيوية على المدى الطويل مع القوى المختلفة في الشرق الأوسط أثناء هذه العملية. وبالإضافة إلى ذلك، توفر هذه الصفقات فرصة جيدة لموسكو لإبراز نفسها باعتبارها شريكًا علميًا متطورًا، واستعادة دور الاتحاد السوفياتي السابق في التصنيع داخل الجزائر، مصر، العراق، وليبيا، في منطقة الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة.
لكن هذا لا يعني أن روسيا ستكون قادرة على بيع منتجاتها في كل مكان. جميع الدول ليست مثقلة بتكلفة بناء البنية التحتية النووية. المملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، لديها حوافز أقل لتحقيق النموذج الروسي الحالي، نظرًا لثروة البلاد الوفيرة. ويمكن أن تصبح السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط حجر عثرة. الدعم السياسي والعسكري الروسي للرئيس السوري بشار الأسد أدى إلى توتر علاقة روسيا مع تركيا ودول الخليج العربي. كما أن إسقاط الطائرة الروسية من قِبل القوات التركية في ديسمبر عام 2015 أثار مخاوف من توقف اتفاقيات البلدين بشأن بناء محطة الطاقة النووية “أكويو” في جنوب تركيا. وعلى الرغم من أن ذلك لم يحدث حتى الآن، إلّا أنَّ مصير المشروع ما زال مُعلقًا مع استمرار تدهور العلاقات السياسية بين البلدين.
لعبة القوة الروسية هي لعبة اقتصادية واستراتيجية على حد سواء. توفير وصيانة المفاعلات النووية وكذلك تنفيذ العقود يزيد من الفوائد الاقتصادية. تنمية العلاقات طويلة الأجل مع دول الشرق الأوسط يخدم الأغراض الاستراتيجية كذلك. لكنَّ مدى سعي موسكو لبسط نفوذها في الشرق الأوسط عن طريق تكنولوجيتها النووية لا يزال غامضًا. لقد حققت روسيا بالفعل مكاسب كبيرة في السوق النووية في الشرق الأوسط، ويشير المركز الإقليمي الجديد لشركة “روساتوم” إلى أنَّ موسكو ملتزمة بالاستراتيجية النووية على المدى الطويل. ومع ذلك، فإنَّ المدى الذي يمكن لروسيا تعزيز مكاسبها وتوسيع حصتها في السوق لا يعتمد على مجرد توفير التكنولوجيا والخدمات بأسعار معقولة. يجب أن تصبح روسيا النووية ذات مصداقية وشريك موثوق به على المدى الطويل، خاصة وأن موسكو أصبحت الآن أكثر انخراطًا في السياسة الحزبية في الشرق الأوسط. بالنسبة للعلاقة بين روسيا ودول المنطقة، سنرى ما إذا كانت صفقات الطاقة يمكن أن تبقى منفصلة عن الجغرافيا السياسية في المنطقة.
إيوان24