خلق الله البشر مختلفي السلوك والمزاج والرغبات، فما تصبو له لا يعني شيئا لغيرك؛ وما تراه سخيفا هو لآخرين حلم منشود! يميل البعض للأبيض ويطعن آخر في بريقه الذي يؤلم العين، يميل البعض للانطواء والانفراد بالذات بعيدا عن صخب الحياة ونرى آخرين يدعون الله أن يعافيهم مما ابتلى غيرهم به من العزلة والاكتئاب ويرون ضرورة في أن يبقي الفرد قطعة لا تنفصم عن المجتمع -حد قولهم-.
لا يتسع المجال لذكر صنوف الاختلاف على حده والشاهد من الأمر هو ترسيخ مفهوم اختلافية البشر عن بعضهم وهذا ما يفسر التنافر والتصادم الحاصلان عند التقائهم في ميادين الحياة المتنوعة بعبارة أقل سلبية “التضاد الحاصل” منذ بدء النشأ وحتى الأزل وهذا الاختلاف قائم وسيدوم ما دامت السماوات والأرض، فمحاولة إذابته أو تسويته أمر يستحيل فعله ويعي ذلك كل من يحاول. وبالمقابل سيبتلع من يتخذ من هذه الأمر ذريعة لإلقاء العنان للنفس لتعمل ما تريد ضد من تريد أو مبرر لسلوك البشر الشاذ والتناحر والتقاتل الذي يسود ناضر العين في يومنا هذا بحجة أننا مختلفون.
الاختلاف شيء وما نشهده شيء آخر لا يمد للاختلاف بصلة. وعليه فسأضع تحت الاختلاف خطوط عريضة وتساؤلات جانبية حتى نراها من زوايا مختلفة؛ ونحملق في معناها. ونرى فيما لو كان له ثمة فوائد أم أنه لا يتعدى كونه محض ابتلاء أتعب كاهل البشر؛ وهل هو كلمة السر لمجريات العصر التي تزكم له ويندى لها الجبين أم أن التعاطي معه بشكل خاطئ وعدم احتوائه هو السبب؟
أقوى التفاعلات وأسرعها هي تلك التي تأتي من مادتين مختلفتين عن بعضها، وكما هو معلوم فالحمض والقاعدة رغم اختلافهم الكلي عن بعض إلا أن خلطهم مع بعض يولد أهم نعمتين على وجه الكرة الأرضية (الملح والماء) |
أعتقد لو قلت أن الاختلاف هو “التنوع” أو “التباين” لما مس اجتهادي هذا الصواب بشيء -وان لم يكن للكلمتين نفس الوزن صرفيا- إلا أنني على الأقل أخرجت الاختلاف من دائرة الاتهام التي تطاله. يقول الله تعالى في سورة الأنعام: “وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ۚ كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ۖ وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)“. أي مختلف في الطعم والجودة والرداءة.
منه يتبين لنا أن اختلافنا ليس شيطان يدعونا للجحيم ولا امرأة حسناء تجرنا للهلاك؛ سوء إدارتنا له وعدم استثمار ما يكمن به من فوائد هو ما يؤدي لذلك. والاختلاف المقصود هو التنوع والثراء والحيوية والمرونة والتغيير والتجديد والتكامل والتقدم والرقي والإنتاج بكم أكبر. ولكوننا مختلفين في التفكير، والتحليل، فسيتهمني البعض الآن بالمبالغة في إدراج جميع هذه المصطلحات تحت نفس المصطلح “الاختلاف”. كصيدلاني عكرت ضروب التفاعلات أنفي فسأعطيكم أمثله أقرب للملموس منه إلى المحسوس وتوضح أهمية الاختلاف وكيف أنه يشمل كل هذه المصطلحات وغيرها.
أقوى التفاعلات وأسرعها هي تلك التي تأتي من مادتين مختلفتين عن بعضها، وكما هو معلوم فالحمض والقاعدة رغم اختلافهم الكلي عن بعض إلا أن خلطهم مع بعض يولد أهم نعمتين على وجه الكرة الأرضية (الملح والماء)، وأغلب التنافرات والجمود في بعض التفاعلات ليس إلا نتاج تساويها في الشحنات وافتقارها لروح الاختلاف. تعشق الكاتيونات (الموجبة) الأنيونات (السالبة) فبها تتمكن من توليد الكهرباء وبها تنجز الكثير من التفاعلات التحليلية. تناسب المعدة ذات الحموضة العالية الأدوية القاعدية! كما لا تعطي الأدوية المائية أي ضرر للدم رغم اختلافهما عن بعض في اللون.
هناك من يحاول استخدام الاختلاف سلبا حتى من الجمادات؛ كالماء والزيت مثلا، يرفض الماء التفاعل مع الزيت إطلاقا كما يكره الآخر الأول ولا يتحمل رؤيته في مسيرته الكيميائية حتى ضرب بهم مثل السوء في سلوكهم هذا وقيل لأي تصرف خاطئ: “لا تصب الماء على الزيت” ورغم هذا فمحاوله جعلها تتقبل بعض، أو إجبارها على ذلك (إن صح التعبير) ولد كم هائلة من الأدوية الفريدة والمتميزة
وما المعلقات والمستحلبات والغرويات إلا ثمرة هذه التفاعل القسري.
لا يتعب الإلكترون (السالب) من الحركة على الشحنة (الموجبة) كما لا يمكن أن ترمي النواه هذه الإلكترون بعيدا عنها بحجة اللف والدوران عليها وبذريعة اختلافه عنها في الحجم والشكل والشحنة؛ ولو حصل هذه لما وجد هذا الكون بأكمله؛ فإذا كان أصغر وحدة كونية (الذرة) قائمة ومبنية على الاختلاف ما المانع أن نكمل ونبني حياة هذا الجرم الصغير (الإنسان) مستفيدين من الاختلاف. لا زالت ذاكرتي تداعبني بطرفة لأحد الأصدقاء في الثانوية العامة وهو يسأل ويجيب بنفس الوقت عن سبب تطور الصين وتقدمهم قائلا: (أعتقد أن عددهم الضخم يعني أفكار ووجهات نظر مختلفة لامتناهية” تعيش تلك المساحة بآسيا وهي السبب في هذا الإنتاج الهائل والتقدم العلمي والحضاري الذي تشهده الصين). ضحكت من الإجابة حينها- أما الأن فأنا أرفع لها القبعة.
ما أجمل لو تجمعت الأحزاب والطوائف وآمنت باختلافها عن بعضها وأكملت بعضها ببعضها ووحدت جهودها واستثمرت التنوع فيها والاختلاف فيما يصب في مصلحة الأوطان لا فيما يمزقه
الإنسان ضعيف بمفردة قوي بمن حوله ناقص بما يملك ويكتمل بوجوده ضمن محيط فليس هناك من يقوى على كل شيء وليس هناك من لا يقدر على شيء؛ نختلف في المهارات والإمكانيات والمواهب والتفكير وفي كل شيء؛ فلكي تبنى اللوحة بأبهى صورة وتصبغ بكل الألوان فلابد من الحاجة للجميع وتسخير الاختلاف ليظهرها في أجمل حلة قد تكون هذه الصورة وطن أو مجتمع أو أسرة. فالفهم الجيد لمبدا النقص والاختلاف والتكامل والتعاون هو الحلقة المفقودة بمجتمعاتنا وهو الذي جمد حركة الشعوب وأوصلها إلى هذا الحال الباعث للحزن.
لو رجعنا لأصل كل بلوى تصاب بها بلداننا العربية لوجدنا جلها تنشأ من سوء الفهم للاختلاف وإلغاء الآخر وأنانية التصور. ويتناسب طرديا ويتفاقم هذا الوضع السيئ في كل وطن مع زيادة الفجوة بين الاختلاف والتعاطي معه بشكل خاطئ؛ وبأخذ اليمن كعينة لهذه الصورة المعتمة وكيف أن غياب فقه الاختلاف غيب عنا كل ما نحتاجه. ليس الحوثي وما يصنعه الآن من تسلط بشعب اليمن عن ناظركم ببعيد. فالحوثي يرى أن ما لديه من إمكانيات كافية لبناء وطن كامل وهو بهذه مخطئ. الإخوان يرون في منهجهم سلوك حضارة لا يمكن الحياد عنه وأي ميل عنه يجر للهلاك وهم بهذه فتحوا باب العداء عليهم بمصراعيه. المؤتمر حزب ليس له مرجعية دينية كان له رؤية الحزب الواحد والرجل الواحد وهم بهذا ضالون.
هذه الصورة السيئة لها شبيهاتها بكل الدول العربية؛ ما أجمل لو تجمعت هذه الأحزاب والطوائف وآمنت باختلافها عن بعضها وأكملت بعضها ببعضها ووحدت جهودها واستثمرت التنوع فيها والاختلاف فيما يصب في مصلحة الأوطان لا فيما يمزقه. وطن جميل ومجتمع راقي وأسرة أكثر من رائعة ووسط ثري بكل مقومات النهضة والزهو والتطور تنتظر من يسلمون الاختلاف ويؤمنون به حق الإيمان.
الجزيرة-د.فتحي القيس