فيما ستصل الانتخابات التمهيدية في صفوف اليمين والوسط إلى ذروتها اليوم الأحد، لاختيار مرشح إلى الانتخابات الرئاسية الفرنسية بين فرانسوا فيون وألان جوبيه، وفي سياق ينظم فيه اليمين صفوفه في أجواء من الإجماع والانضباط، ما يزال المعسكر الاشتراكي يعيش على وقع الخلافات الحادة بخصوص المرشح المثالي لتمثيل الاشتراكيين في الاستحقاق الرئاسي المقبل. وفي انتظار الانتخابات التمهيدية التي ستجري في صفوف المعسكر الاشتراكي في يناير/كانون الثاني المقبل، لا يثير المرشحون، الذين أعلنوا سلفاً نيتهم خوضها، الكثير من الحماس، سواء داخل الحزب أو في أوساط الرأي العام، وهؤلاء هم أرنو مونتبورغ وبونوا هامون وجيرار فيلوش وماري لينمان، وهم يمثلون بدرجات متفاوتة تيار “الساخطين” ذات المرجعية اليسارية والمعارض للتيار الإصلاحي الذي يمثله رئيس الحكومة، مانويل فالس.
واللافت أن فكرة وجود مرشح طبيعي يمثل الحزب الاشتراكي في الاستحقاق الرئاسي المقبل، يخلق إجماعاً حوله، انهارت تماماً بعد أن وصلت شعبية الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند إلى الحضيض لدى الرأي العام، وأيضاً في صفوف البيت الاشتراكي نفسه. وحتى الآن، ما يزال هولاند يخفي نواياه الحقيقية وسيضطر إلى اتخاذ القرار في غضون الشهر المقبل، وتحديدا قبل 15 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وهو آخر موعد للترشح في الانتخابات التمهيدية في الاشتراكي. وكان لافتاً أن تكون سيغولين رويال، وزيرة البيئة في الحكومة الاشتراكية والمرشحة السابقة في انتخابات 2007، هي من يؤكد هذا المعطى. وقالت بنبرة حازمة، في تصريح للقناة التلفزيونية الثانية الأسبوع الماضي، رداً على سؤال يتعلق باحتمال ترشح هولاند أو فالس، “ليس هناك أي مرشح طبيعي عند الاشتراكيين”.
تصريح رويال يؤكد أنه حتى داخل الحكومة ليس هناك إجماع حول هوية المرشح الاشتراكي، وهذا يغذي الشائعات حول ترشيحات أخرى قد تظهر للعلن قريباً، وهناك حديث عن احتمال ترشح وزيرة التعليم، نجاة فالو بلقاسم، أو وزير الدفاع، جان إيف لودريان، وهذا ما قد يزيد من تشرذم المعسكر الاشتراكي. والواقع أن هولاند سيجد نفسه، إن قرر الترشح للانتخابات التمهيدية داخل الاشتراكي، في وضعية لم يجربها رئيس جمهورية في تاريخ فرنسا. وسيكون عليه أن يشارك في مناظرات تلفزيونية مع بقية المرشحين، ويقف جنباً إلى جنب مع أشرس معارضيه، مثل أرنو مونتبورغ وبونوا هامون، ويضطر للدفاع عن حصيلة ولايته الرئاسية، وهذا في حد ذاته يشكل مساساً بهيبة الوضع الاعتباري للرئيس. ويرى البعض أن نجاح المرشح اليميني فرانسوا فيون في الدورة الأولى من الانتخابات التمهيدية، وحظوظه الوافرة في الفوز اليوم، يعطي الكثير من الدروس الإيجابية إلى هولاند وينعش آماله في ولاية رئاسية ثانية. ويتمثل الدرس الأول في كون نجاح فيون يكسر منطق استطلاعات الرأي التي كانت تعطيه نسبة نجاح لا تتجاوز 8 في المائة، في حين أنه تمكن من النجاح في الدورة الأولى بنسبة 44 في المائة متجاوزاً بكثير منافسيه نيكولا ساركوزي وألان جوبيه. لذا فإن هولاند سيتحرر حتماً من الأثر السلبي للاستطلاعات التي تبث الأسى في معسكره، بتأكيدها هبوط شعبيته منذ شهور طويلة. وبات هولاند مقتنعاً بأن الأمور قد تتغير لصالحه عندما يعلن ترشيحه رسمياً، وقد تذهب استطلاعات الرأي في نفس الاتجاه.
أيضاً فيون نجح، رغم أنه كان عرضة للانتقادات والاستهزاء بخصوص افتقاده لشخصية كاريزمية قوية في بداية حملته الانتخابية، وهذا ما يدل على أن التشبث بخط سياسي واضح والتحلي بالصبر والعزيمة هما مفتاح النجاح، وهذا درس إيجابي آخر لهولاند الذي يواجه نفس الانتقادات حالياً. كما أن اختيار الناخبين الكثيف لفيون بدل منافسين آخرين كانوا يرفعون شعار التجديد، مثل برونو لومير أو ناتالي كاوشيشكو موريزي، رسالة مطمئنة إلى هولاند في مواجهة تهديد منافسيه الشباب في الاشتراكي، وعلى رأسهم إيمانويل ماكرون الذي يطرح نفسه كبديل عن الأجهزة الحزبية التقليدية، يميناً ويساراً.
ويتمثل الدرس الأخير بالنسبة إلى هولاند في كون نجاح فيون في تمثيل اليمين والوسط في الاقتراع الرئاسي المقبل، بخطاب يميني تقليدي واضح يرفض الهوية الثقافية المتعددة في فرنسا ومعاد للطبقات الشعبية، سيعيد ترتيب الخريطة الأيديولوجية للمشهد السياسي الفرنسي، ويخلق تبايناً واضحاً بين خطابي اليسار واليمين. وهذا من شأنه أن يستنفر الناخبين الاشتراكيين، ويدفع كل المتعاطفين مع اليسار للالتفاف حول المرشح الاشتراكي، بمن فيهم الذين يشعرون بخيبة من أداء هولاند في ولايته الرئاسية. يبقى أن رئيس الحكومة، مانويل فالس لا يخفي، هو الآخر، تطلعاته الرئاسية، وفي حال ترشحه فإنه سيشكل خطراً كبيراً على هولاند أكثر مما يشكله ماكرون. ورغم أن فالس يتعرض إلى هجمة شرسة من طرف تيار “الساخطين” الذين ينتقدون توجهه الليبرالي، فقد ضاعف في الأسابيع الأخيرة من تلميحاته إلى احتمال ترشحه في حال تخلى هولاند عن التطلع إلى ولاية ثانية. وليس من المستبعد أن يغير فالس من استراتيجيته، ويستلهم العبرة من فيون الذي استطاع استمالة ناخبي اليمين، رغم أنه كان رئيس الحكومة خلال ولاية الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، وفي النهاية تمكن من هزم الأخير في عقر الدار اليمينية.
هكذا هو حال الحزب الاشتراكي على محك الانتخابات التمهيدية في صفوف الخصم اليميني: بيت آيلٌ للسقوط وقابلٌ للانفجار بسبب الخلافات المزمنة، وضعف حصيلة الولاية الاشتراكية، وهفواتها الكثيرة والصعود المتواصل لليمين المتطرف. والرهان يبقى الآن في تغيير محتمل للمشهد الانتخابي في الأسابيع المقبلة، في مواجهة يمين يظهر فيه أحياناً فيون ومارين لوبان، رغم اختلافاتهما، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، هدفها الإطاحة بالاشتراكي ودحر اليسار.
العربي الجديد