تستضيف العاصمة الروسية، موسكو، اليوم الجمعة، مؤتمراً حول السلام في أفغانستان، بمشاركة ممثلين عن 12 دولة إقليمية، الأمر الذي يعد تتويجاً لمساعيها المزاحمة على موطئ قدم في الساحة الأفغانية.
فقد تواترت مؤخراً تقارير أمريكية محذرة من تنامي النفوذ الروسي في أفغانستان، سواءً على المستوى السياسي والدبلوماسي، أو حتى الميداني، من خلال مزاعم بتقديم موسكو أشكالاً مختلفة من الدعم لحركة “طالبان” الأفغانية.
لم يخف الطرفان سراً وجود تواصل بينهما يعود لسنوات، ففيما شددت طالبان على أنه لم يتجاوز حدود “الدعم السياسي والمعنوي”، كشفت موسكو، قبل أيام، على لسان مبعوثها إلى أفغانستان، زامير كابولوف، لـ”الأناضول” أن موقفها “يتطابق” مع موقف الحركة، المطالب بإخراج القوات الأجنبية من البلاد.
تأتي تلك التطورات بالتزامن مع تذمّر في المنطقة من استمرار الفوضى في أفغانستان، بل تفاقمها، بالرغم من مرور أكثر من عقد ونصف على الغزو الأمريكي لأفغانستان بحجة القضاء على الإرهاب، واستمرار وجود الآلاف من القوات الأجنية، والعشرات من قواعدها العسكرية هناك.
فالحكومة المركزية في كابل لا تزال عاجزة عن السيطرة على البلاد، علاوة على حدودها، بل إن العاصمة نفسها شهدت العديد من الهجمات الدامية في الآونة الأخيرة، تبنَّى عدداً منها مجموعات تتلقى أوامرها من “البغدادي”، زعيم تنظيم “داعش” في سوريا والعراق.
تلك الأخيرة بالذات هي ما يقلق دول المنطقة، خصوصاً باكستان، التي شهدت العمليات التي تستهدفها، انطلاقاً من أفغانستان، تزايداً وأكثر دموية منذ ظهور تلك المجموعات، الأمر الذي دفعها لإرسال رسائل شديدة اللهجة إلى واشنطن، مفادها: “أنهوا الفوضى في أفغانستان أو ستفعل روسيا ذلك”، وفق ما نقلت صحيفة “تيلغراف” البريطانية عن مسؤول عسكري باكستاني رفيع، مطلع مارس/آذار الماضي.
وبالفعل، فإن موسكو تحث الخطى نحو تثبيت نفسها كلاعب أساسي على الساحة الأفغانية، من بوابة رعاية عملية سلام في البلاد، بين الحكومة المركزية وطالبان، تنهي الفوضى وتفوت الفرصة على “داعش”، بحسبها، وهو ما تتوجه بمؤتمر اليوم.
أما دوافع روسيا ومصالحها في هذا التوجه الجديد، أو فلنقل القديم المتجدد، يتمثل في جزء أساسي بتاريخ الصراع الروسي الغربي على المنطقة.
فقد غزت موسكو أفغانستان إبان الاتحاد السوفيتي، عام 1979، في استباق لتحرك غربي نحوها، إلّا أن ذلك شكَّل بداية النهاية للاتحاد الذي ورثته روسيا الفدرالية، مطلع التسعينيات، وفسح المجال واسعاً للولايات المتحدة، لتقنص فرصة الدخول إلى أفغانستان، وهو ما تمثل بحجة “الحرب على الإرهاب”، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
ويرى الروس في الغزو الغربي على أفغانستان تحركاً يستهدفهم بالدرجة الأولى، ويسعى من ثمّ لامتلاك موطئ قدم في بقعة استراتيجية على خريطة القارة اليوروآسيوية، تتوسط قوى كبرى وأخرى صاعدة، كالهند والصين وإيران ووسط آسيا، الغنية بمختلف الموارد الطبيعية وطرق التجارة البرية الأهم عالمياً.
وتشير روسيا إلى الفشل الأمريكي في تحقيق الأهداف المعلنة لحربها على أفغانستان إلى اليوم، كدليل على عدم صدق نوايا واشنطن، وعلى أن الهدف الرئيسي لتلك الحرب هو نشر قواعد عسكرية لها هناك، وهو ما تمكنت من تحقيقه، من خلال معاهدات مع الحكومة التي أوجدتها واشنطن في كابل.
من جهة أخرى، فإن روسيا ستسعى بالتأكيد لاستباق التوصل إلى سلام في أفغانستان بصياغة أمريكية، يمنح واشنطن المزيد من الامتيازات، ولوجود قواعدها شرعية أكبر، خصوصاً وأن الإدارة الأمريكية السابقة، برئاسة باراك أوباما، قد بدأت بالفعل مد خطوط تواصل مع طالبان، تبعه الإعلان عن افتتاح مكتب رسمي للحركة في دبي الإماراتية، عام 2012.
وبالإضافة إلى التهديد الذي يشكله وجود عسكري أمريكي ضخم في أفغانستان، على أمن روسيا القومي، فإن الاضطرابات هناك وفرص انتقالها إلى جمهوريات وسط آسيا يشكل تهديداً لا يقل خطورة.
فالحدود الفاصلة بين روسيا وكازاخستان، كبرى دول آسيا الوسطى، تعد ثاني أطول حدود بين دولتين في العالم (بعد الحدود بين الولايات المتحدة وكندا)، وتمتد لمسافة تزيد عن 6 آلاف و846 كيلومتر، تتشكل أغلبها من بوادٍ مفتوحة، تصعب، أو ربما تستحيل، السيطرة عليها.
وبالنظر إلى هشاشة الوضع الأمني في المنطقة، ووجود أنظمة مستبدة في أغلب دولها، وتعدد الأزمات بين حكوماتها، فإن فرص انتقال الفوضى إليها من أفغانستان واردة جداً، خصوصاً في حال قرر تنظيم “داعش” نقل “دولته” إليها، بعد فشله في سوريا والعراق، الأمر الذي سيشكل تهديداً أمنياً كبيراً بالنسبة لروسيا.
كما أن نفوذاً روسياً قوياً في أفغانستان سيعزز من قبضتها على وسط آسيا، وسيركز جميع الأوراق الأمنية والاقتصادية في يدها، وهو ما ستستثمره في إطار أي منافسة أو صراع مع قوى دولية أو إقليمية أخرى، كالهند أو إيران أو الصين، خصوصاً مع سعي الأخيرة لإعادة إحياء خطوط التجارة التاريخية العابرة بالمنطقة نحو أسواق الشرق الأوسط وأوروبا.
وفي سياق الحديث عن الأهداف الاقتصادية، فإن أفغانستان تمثل محطة أساسية على الطريق الواصل بين روسيا والموانئ الباكستانية على بحر العرب، وهو ما سيخلص روسيا من اعتماديتها الكبيرة على الموانئ الإيرانية في نقل البضائع بين روسيا وأسواق جنوب وجنوب شرق آسيا.
ومما يشجع الروس على العودة بقوة إلى الساحة الأفغانية اليوم هو الموقف الباكستاني، فعلاوة على التململ الذي أظهرته الأخيرة من الوضع في أفغانستان الشهر الماضي، فإنها، أي باكستان، تدرك أن الولايات المتحدة ستقف إلى جانب الهند في سياق أي صراع في شبه القارة الهندية، وذلك بالرغم من سنوات العمل الباكستاني الحثيث لمساندة الحرب الأمريكية على الإرهاب.
ومع عودة التوتر بين باكستان والهند، وميل ميزان القوى والتحالفات الدولية لصالح نيودلهي، فإن إسلام أباد تسعى من خلال فتح أبواب أفغانستان للروس، عقد شراكة تاريخية معهم، خصوصاً وأن موسكو أثبتت في السنوات القليلة الماضية التزامها بالدفاع عن شركائها، على النقيض تماماً من واشنطن.
إذن فهي فرصة تاريخية لموسكو في أفغانستان، صاغتها توازنات محلية وإقليمية ودولية، وإذا أضيف إليها استمرار حالة الفوضى في البيت الأبيض مع الإدارة الجديدة، فإن روسيا ستندم فعلاً على أي فشل في استثمارها.
تجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة ألقت، أمس الخميس، أكبر قنبلة غير نووية على موقع لـ”داعش”، شرقي أفغانستان، تستخدمها للمرة الأولى على الإطلاق، الأمر الذي سيكون له الكثير من الأصداء في قاعة الاجتماع اليوم، وسيشكل اختباراً لجدية موسكو في مزاحمة واشنطن في الساحة الأفغانية.
المصدر:وكالة الأناضول