خرج أبو خليل من البيت وهو يحدث نفسه : حان الوقت كي تلقي حمولة الأيام المتراكمة فوق صدرك وتلتقط أنفاسك وتفكر بما لديك ، بما تملك ، بما تستطيع ، تابع: الق تلك القمامة وذلك النسيج المبتذل ، الفوضوية المقيتة المترعة بصورٍ ، بأحلامٍ ، بذكرياتٍ ،بذنوب ، بخجلٍ ، بألمٍ ، بواقع مر ؛ وانسج أحلاماً جديدة مستندة إلى ما لديك مهما كان بسيطاً وتخفف من الألم وعذاب الضمير والمعاناة ، فكر قليلاً : ما من منجاة إلا بالحب ، ذلك الشعور البوهيمي اللذيد الذي يجتاحك بعفوية ، فاتحاً أمامك مسارب جديدة ؛ منارةً بالجمال والأمل .
دائماً كان يحب هذا العيد ، افتتن باللون الأحمر الجميل الحار ، كان يشعر أنه استمرار للحياة ، وهل أحيلى من الحب في التعبير عن جمال الحياة.
لم يكن هو وجيله يحتفلون بهذا العيد في شبابهم ، غير أنه كان يحس بسعادة غامرة عندما يرى أولاده يتهيئون لهذا اليوم ، ويستعدون له بحماسة ، كانوا يحصون ما وفروه من مصروفهم الشخصي قبل العيد بأيام ، ويحاولون بمرح الاحتيال عليه كي يضاعفه لهم ، كان يعترض ، لكن عيناه تشيان بالعكس ، فهم يعرفون أنه سيفعل وهو يعرف لماذا طلبوه وينجحون فيما يريدون وهو في غاية السعادة ؛ يراقب العلب المغلفة بالأحمر وبالأشرطة الجميلة ، في الخزائن ، تحت الوسائد ، في أمكنة مختلفة والفرحة تملأ قلبه ؛ فها هي الحياة تعود له من جديد .
كان يدافع بحماس وعصبية عن هذا اليوم ، يعتبره تجديداً للحياة ، وطرداً للروتين ، لابل توصل بينه وبين نفسه إلى أنه دليل انطلاق وتحرر ، تحرزه الحياة التي لا يمكن أن تتوقف ولا يستطيع أصحاب العقول الجامدة أن يحدّوا من حركتها وانطلاقها .
مشى بتثاقل وبطء شديدين وقد شعر أن الزمن تمكن منه أيما تمكن ، خاصة بعد أن ساد الملل حياته الزوجية وامتلأت بالعصبية والطلبات التي لا تنتهي ونظرات الشزر وعدم الرضا ، حاول أن يقنع زوجته بهجر الهموم والوساوس والاستمرار بالحياة ، لكنها سخرت منه عندما قال لها : (ربما أصبح جسدانا هرمين ولكننا لازلنا شابين من أجل الحب ) قهقهت بصوت عالٍ لكنه لاحظ التماعة فاتنة في عينيها برقت للحظة ، كان واثقاً من أن الدفاعات والشكليات ستنهار أمام روعة الحب الحميم والحقيقي وبعكسها كان يرفض الاستغراق في الهموم ، واثقاً أن الحياة تتدفق دوماً ؛ وتكون في غاية الجمال إذا تلقيناها بعفوية وبلا هموم .
دخل محل الورود حيث كان اللون الأحمر طاغياً ، انتظر حتى انتهى البائع من تلبية طلبات شباب وصبايا يضجون حيوية ، وضحكاتهم تتساقط ككركرة الماء العذب ، استغرب البائع حين طلب طاقة من الورود الحمراء وأصر أن تلفَّ بشريط أحمر ، أنيق وعليها بطاقة مزينة بعبارات رومانسية كتبها بنفسه وبعناية ، لكنه أعطاه ما طلب بأريحية ، خرج إلى الشارع ممسكاً بها بشغف ، فكر : ربما يستطيع تجديد حياة بدأت بالتلاشي والذبول ، قال في نفسه : (يكفيك تمرغاً في أحزان الماضي ؛ فالعلاج الوحيد هو الحب ، ليست الجاذبية هي التي تبقي الكون متوازناً ، إنما قوة الحب الجبّارة هي التي تفعل ذلك ) ، حينها تذكر رسول حمزاتوف : (وأتى الحب عنيفاً أزرق العينين فجعلني دفعة واحدة كبيراً راشداً ، أشيب ، حكيماً حتى آخر أيامي وأتى الحب وابتسم في بساطة فإذا أنا ولد صغير ) .
دخل محلا للمشروبات واشترى زجاجة نبيذ غالية الثمن ، وضعها في الكيس الأحمر بين الورود ، عندما خرج قرأ على زجاج الباب المفتوح :(خمّارة نظمي ) ، بدأ عقله يعمل بسرعة والكلمات تمور وتمور ، شعر بأن رأسه قدر تغلي ؛ آه …ناظم حكمت :
( ياطفلتي ذات العيون الذهبية
كنت شأشتري لك البنفسج هذا الصباح
لكن الرفاق كانوا جياعاً
فاشتريت لهم خبزاً
وكتبت لك قصيدة حب ) .
أحس بشيء من التقزز يولد داخله وينمو سريعاً كالفطر ، وبدأ حبه للون الأحمر يتلاشى وهو يتذكر الدم الذي سال في هذه الحرب القذرة ، انحسر شعوره بالتفاؤل ، رأى بعين عقله البيوت المهدمة ومعسكرات اللجوء والوحل والشتاء والأطفال وأولاده المهاجرين ، شعر أن قبضة حديدية طوقت قلبه وبأنه مقدم دون إرادته على فعل رهيب ، استيقط من شروده بجانب بناء زين بمناسبة عيد الحب والبالونات الحمراء على شكل القلوب ترفرف مع حركة الريح ، نظر إلى كيسه بحنان ووضعه على إفريز النافذة قائلاً بصوت شبه مسموع : لاوقت للحب الآن .
نقلاً عن صفحة منذر حنا