مع تجاوز سنوات خمس على انطلاق الحراك السلمي الثائر في سورية، ينحو أغلب الباحثين والقارئين في الحدث السوري إلى اعتباره تاريخاً غابراً، وينصرف جل اهتمامهم إلى النقاش والبحث في الأطر السياسية المتهالكة للمعارضة السورية، والبنى المليشياوية المفكّكة للكتائب المختلفة التي تدعي محاربة الأسد على الأرض. لا شك أن الراهنية في البحث السياسي مطلوبة دائماً وأبداً، لا سيما إذا كانت تأمل الاستشراف المستقبلي، إلا أن هذا لا يعني إهمال الدروس التاريخية لحراكٍ يبدو أنه، في بداياته الباكرة على الأقل، كان يحتوي الظروف المثلى لثورة السوريين.
يشير أغلب الشباب السوري الذي انخرط في الحراك السلمي الباكر، تضميناً أو تصريحا، إلى أنه لم يتخيل ردّة فعل النظام الوحشية في قمع المتظاهرين، وصولاً إلى تدمير البلاد بأسرها، مع أن بطش النظام السوري ليس سرّاً، وتفاصيل مجازر حماة وحلب، وتصفية آلاف السوريين، واعتقال آلاف آخرين، ونفي مئات من الناشطين السياسيين، ما زالت بعيدة عن النسيان. ليس هذا وحسب، بل إن تفاصيل الحياة اليومية في عقود أربعة ما تزال تزخر بتدخل قوى الأمن في كل صغيرة وكبيرة، ليس في سورية وحدها فحسب، بل في لبنان ردحاً طويلاً، وفي غير مكان في العالم. يدعو ذلك إلى استغراب هذا الاستسهال الضمني الذي جعل من هؤلاء الشباب يندفعون، في اعتقاد جارف، بأن هذا الأمر لن يطول.
لا شك أن أصداء ثورة 25 يناير المصرية (أو الأصداء الإعلامية بشأنها) كانت عاملاً أساسياً في تقييمٍ كاذب للحراك الثوري العربي عموماً. مع تنحّي الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عن السلطة، بدا للشباب السوري الثائر أن الأمر أسهل مما يبدو، وأن تجمعاتٍ ومظاهراتٍ ووقفاتٍ كفيلة بتحقيق المثل، ولا بد بالطبع من الإشارة إلى تناول الإعلام الشأن المصري آنذاك بنوع من التسليم بوصول مصر إلى “واحة التحرّر والديمقراطية” في ثمانية عشر يوماً، من دون أي تخوفاتٍ، أو تساؤلاتٍ، أو نزعة إلى الحفر في ما هو أعمق، مثل كيفية إنهاء الدولة العميقة، أو إنشاء شبكة أمان فوق دستورية، لتكون أرضية صلبة لإنجاح هذا الحراك فعلياً. كان الحراك المصري إعلامياً مجرد نداء لنبذ السياسة، وإعلاء صوت التحرك الشعبوي يتناسى النضال السياسي والمدني المطول الذي كان جزءاً من اندلاع التظاهرات في 25 يناير، وقد تلقفه السوريون كما هو، من دون أي تعديل.
بالنسبة للسوريين الذين تنقصهم خبرة العمل السياسي وتوظيفه على أرض الواقع، وجدوا في أصداء الحراك المصري فرصةً لإطلاق شحناتهم ضمن الشارع السوري، استسهالاً واعتماداً على مفهوم مضلل لفكرة “إسقاط النظام”، وأمل كاذب بقوة “الشبكات الاجتماعية” وسيلة لحشد السوريين في صف واحد، واعتبار أن فتح الفضاء العام للنقاش أمر كاف لتصديع دولة الأسد المعشّشة، وهو أمر، وإن كانت له محامد كثيرة، إلا أنه بالتأكيد عملية بعيدة المدى، لا يمكن لها إحداث تغيير جذري في أيام أو أشهر.
مع انعدام التنسيق وفقدان الثقة، حتى داخلياً، ضمن نوى الحراك السوري أو “التنسيقيات”، وتضارب مصالح هذه النوى غالباً، أدى غياب التنظيم إلى الاكتفاء بمستوى “ذري” من التحركات الصغيرة هنا وهناك، مع غياب أي تنظيمٍ يسمح بحشد حقيقي. ومن هنا، كان لا بد لدى بعضهم، من تبني مصطلحات فضفاضة، وأيديولوجيات أكثر شعبوية، بما في ذلك تسخيف العمل السياسي، وتشريف الشعبوية (من قبيل شعار “حذاء أصغر متظاهر أهم من جميع المعارضين السياسيين”)، والاتجاه نحو الغزل مع المد السلفي الجهادي الذي قدّم نفسه بصيغة حداثوية وقتية، ريثما اندمج بالثورة السورية حيناً، ثم لفظها خارج دولته المزمعة.
ما يزال جزء كبير من هؤلاء الشباب حياً يرزق، موزّعين في مشارق الأرض ومغاربها. ومن أشد الأسى أن تُنسى تجربتهم، وتهمل القيمة المضافة الكبيرة التي يمكن أن يقدمها استخلاص تجاربهم ودروسهم غير المنحازة، فالتركيز على الحاضر الفاشل، من دون استحضار جذور فشله، هو مجرد جلد للذات، وندب لواقع غير منتج في المدى المنظور.
العربي الجديد – لورين محمد