تناولت مؤخراً وسائل إعلام روسية عديدة وبصفة متواترة أوضاع النظام السوري المتردية في كافة المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية ومدى صلاحية رأسه للاستمرار في الحكم، وكان لافتاً الاهتمام الذي لقيته لدى الأوساط السورية نظاماً ومعارضة تحليلاً وتعليقاً للمقالات والإحصاءات والتقارير التي أوردتها وسائل الإعلام الروسية فيما يشبه المهرجان غير أن الحس النقدي والعقلاني كان الغائب الأكبر عن ذلك المهرجان.
ليس جديدا أن تتولى وسائل إعلام روسية مهاجمة النظام السوري عموما وبشار الأسد خصوصاً بين الفينة والأخرى، وبغض النظر عن أن تلك الصحف تعكس وجهة نظر الكرملين أم لا، إلا أنها تبقى أصواتا تعكس رأي قطاع من المجتمع السياسي والإعلامي الروسي، ولا يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها لمجرد أنها غير رسمية، كما لا يجب تضخيمها واعتبارها تعكس المناخ السائد لدى المسؤولين الروس. وفي حين يؤكد المحلل السياسي رامي الشاعر في مقاله الأخير بعنوان “من يقف وراء الحملة على الأسد في روسيا” أن هذه الآراء لا تعكس الرؤية الرسمية الروسية ويحذر من المبالغة في أهميتها موضحاً أنها تأتي ضمن النقد الصريح والبناء بين الأصدقاء، غير أنه لا يمكن لأحد أن ينكر العلاقة البنيوية بين المجتمع السياسي من جهة والمجتمع الإعلامي من جهة أخرى.
لقد شاهدنا من قبل صوراً وفيديوهات بكاميرات روسية رسمية تعمدت رصد مواقف وحالات تشكل في العرف الدبلوماسي إهانة لرأس النظام بالذات أو لمرافقيه، فيما تمثل من جهة أخرى رسائل سياسية للنظام تارة وللأطراف الدولية تارة أخرى. وإذا كان المسؤولون الروس قد اكتشفوا فجأة خلال الأيام الماضية فساد النظام وانعدام جدارته فلا يمكننا سوى أن نقول لهم (صح النوم)، ولكن الحال ليس كذلك أبداً فهم يعلمون الواقع تماماً حتى قبل تدخلهم العسكري، وأولويتهم في سورية هي الدولة السورية ككل واحد يشمل عناصر الأرض والمجتمع ومؤسسات الإدارة والحكم. وعلى هذا الأساس فقط يمكننا فهم مدى الإحباط وخيبة الأمل الروسية من أداء النظام في ميادين الاقتصاد والإدارة والعملية السياسية التفاوضية.
وحتى تتوضح الصورة كاملة يجب أن نفرق بين السيطرة والإخضاع من جهة والحكم من جهة أخرى، فالسلطة لا تحتاج في الحالة الأولى إلا لأدوات البطش أما في الحالة الثانية فإنها تحتاج إلى حد أدنى من المشروعية التي توفرها الإيديولوجيا بغض النظر عن شكلها وإلى مستوى مطلوب من الاقتناع لدى المحكومين بقدرة الحاكم وجدارته وتمكنه من حل المشكلات الموضوعية التي تواجه المجتمع ناهيك عن حماية البلاد وحسن إدارة دفة الحكم أو ما نطلق عليه باختصار تسمية الحكم الرشيد. وإذا نظرنا إلى الوضع السوري من منظور هذه المعايير أدركنا أن هذا النظام قادر على السيطرة ولكنه عاجز عن الحكم، كما ندرك حجم المعضلة والمسؤولية الأخلاقية والسياسية التي ترتبت على روسيا حين تدخلت عسكرياً في سوريا. وذلك في ظل استمرار النظام في آلياته المعهودة وأساليبه التي لم تتغير في الفكر أو الممارسة وعلى كافة المستويات وكأن شيئاً لم يحدث منذ 2011، واستمرار غياب أي مؤشر إيجابي من هذا النظام رغم المساعي الروسية المتكررة.
على المقلب الآخر نرى خيبة أمل مشابهة لدى الشعب السوري من جسوم المعارضة التي تصدرت المشهد السوري منذ 2011، فرغم تضحياته العظيمة ومعاناته المستمرة، لم تتوفر للشعب السوري قيادات تليق بتلك التضحيات وتجسد تطلعاته وحلمه بدولة حرة ديمقراطية ينشدها منذ سنوات طويلة. والمخيّب أكثر أن المعارضة السورية طيلة ما يقارب عقد من الزمن لم تفلح بإيجاد كيان سياسي واحد يحظى بتأييد شعبي كاف ليكون طرفاً فاعلاً في الأزمة ومعبراً عن إرادة هذا الشعب.
ومن مفارقات الأزمة السورية أن الطرفين المعنيين فيما يعرف بالعملية التفاوضية والعملية السياسية – نظاماً ومعارضةً – هما أضعف الأطراف الفاعلة في الأزمة ولا يملكان القدرة على تغيير خارطة الواقع، بل وأكثر من ذلك، فقد أصبحا أدوات للأطراف الأخرى وبالتالي فإن توليهما للعملية التفاوضية أمر يشبه مسرح خيال الظل. فمنذ إنشاء المجلس الوطني ثم مجيء الائتلاف لاستيعاب طيف أوسع للمعارضة وبعد أن امتلك تأييداً دولياً تجده اليوم لا يملك من تلك الشرعية سوى تنفيذه لكل أجندات الجهات الداعمة له وأولها تركيا. ومن غير المبالغ فيه القول إنه لا يوجد مكون واحد في المعارضة ومنصاتها يحظى بتأييد جمهور أو يمتلك شعبية تنافس النظام بشعبيته لدى جمهوره مؤيديه.
لم يحاول النظام الاستفادة من الدعم الروسي من أجل بناء دولة فبناء الدولة يتعارض مع فكرة السيطرة العارية الكلية، ولم تفلح القيادات السياسية للمعارضة في تقديم نمط من التفكير والممارسة مغاير للنظام فغالبيتها تنهج آلية النظام وتتبع منهجه في الفكري والعملي، حيث الفساد المالي والإداري والشللية واحتكار السلطة والتمسك بها مهما كلف الأمر والاستعانة بالأطراف الخارجية لتحقيق النفوذ والاستمرار، وبالتالي فإن جمهور المعارضة يدرك ما وصلت إليه قياداته وهو لا يملك البديل له، وكذلك حال الجانب الروسي الذي يدرك أكثر من غيره أن نظام الأسد عصي على الإصلاح ولكنه أيضاً لا يملك البديل ولم يعمل على إيجاده.
ليعذرنا الأصدقاء في المعارضة، فعندما يفضح الجانب الروسي حليفه السوري وعندما يكشف ضعفه ويعري فساده إلى هذا الحد، يصبح ذات الفعل واجباً أخلاقياً على داعمي المعارضة وجمهورها في كشف سلبياتها وفسادها ومواطن ضعفها. فالفاسد الضعيف يهدم ولا يبني أياً كان موقعه.
في النهاية يبقى السؤال المهم هل تحزم الإدارة الروسية أمرها نحو التغيير، وهل يخرج من أوساط المعارضة من يملك القدرة على رمي قفاز التحدي أمام الحكومة الروسية. هذا ما يجب أن يحدث رغم صعوبته بعد أن صارت الازمة السورية لدى الكثيرين باب رزق لا يريدونه أن يغلق، وكلنا يقين بقدرة السوريين على تقديم القيادات القادرة على صناعة سوريا المستقبل على نحو يكفل تحقيق تطلعات الشعب السوري.
هدى أبو حلاوة
نقلا عن: بروكار برس