“حليب يا حليب، تازه ياحليب”، في مكان مظلم بملجأ تحت الأرض لا تكاد “قطعة اللد” تضيء نفسها يجلس من بقي على قيد الحياة في عمارة بحي الصاخور بحلب الشرقية المحاصرة، أخذ سامر وأولاد جيرانه يمضون الوقت ويقلدون صوت بائع الحليب والكعك الطازج الذي كان قبل أشهر يجوب الحي على دراجته الهوائية منتظرا أطفالها برفقة “الطناجر” الصغيرة ليملؤوها بالحليب ويمشون بحذر كي لا يقع منه شيء ويكونون عرضة لتوبيخ أمهاتهم.
لم يبق أمام أولئك الأطفال سوى الذكريات التي تزيد من أوجاعهم وآلامهم في ظل حصار خانق أحكمته قوات النظام على أحيائهم، فكانت اجتماعاتهم في الملاجئ خوفا من القصف الوحشي عبارة عن استذكار أيامهم الماضية عندما كانوا ينعمون بالخيرات والنعم، فتنتهي جلساتهم البريئة بالكبو والنمو بمكانهم على أمل لربما لن يتحقق بنصر قريب يزيل عن قلوبهم الصغيرة الهم ويعيد البسمة لشفاههم التي اعتادت اليأس.
ولعل شعلة الأمل التي رسمها أطفال حلب في مخيلتهم باتت تنطفئ دون سابق إنذار مع تقدم قوات النظام وسيطرته على معظم الأبنية السكنية في حي مساكن هنانو بعد أن كانت بيد الثوار منذ عام 2012، بعد معارك عنيفة استمرت لأيام بين الطرفين مستخدما النظام كافة إمكانياته العسكرية من طائرات ومدافع وقذائف، ويهدف النظام بتقدمه لقسم أحياء حلب المحاصرة لشطرين ليسهل عليه السيطرة عليها، ووجهة النظام القادمة هي حي الصاخور ليستكمل مخططاته.
وبعد أن يمل سامر ورفاقه من ذكريات الماضي التي تترك حسرات في قلوبهم، ينتقلون لمناقشاتهم السياسية رغم صغر سنهم، فيحللون آخر المستجدات ويتوقعون ما يخبئه لهم المستقبل القريب، فيقول سامر غاضبا:” الثوار عم يعملو كل جهدن ليفكو عنا الحصار ويدخلولنا مساعدات بأقرب وقت”، فيقاطعه هاني :” أنت شو عم تحكي كل الدول باعتنا وما حدا سائل عنا، صرلنا شهور عايشين بدون خضرا بدون حليب، عم نشتهي ريحة الأكل، كل يوم عم ناكل نفس الطبخة برغل بعدس، لو العرب حسو فينا كانوا عالأقل عمل وشي ليدخلولنا أكل، والثوار بحلب تعبو كل يوم عم يستشهدوا عالجبهات شباب متل الورد بس الي بره خذلوهن، وباعو الثورة بشوية مصاري هاد الواقع ياسامر، حاج تتفاءل حلب انباعت ودم شهداءنا راح هدر”.
أحاديث طفولية لكنها تحكي واقعا مرا يقهر القلوب ويرجعنا سنينا للوراء، عندما كانت الثورة السورية بأوجها وحققت انتصارات ساحقة على قوات النظام، لكن مايحدث مؤخرا سواء في حلب أو ريف دمشق يثير تساؤلات عدة ودلالات قوة للنظام بعد أن تخاذل الجميع مع مناطق المعارضة، ليس غريبا عنهم فالمصالح تقتضي ذلك، وآلاف الأرواح التي تنتظر الهلاك لا تعنيهم شيئا، فهل الأيام القادمة ستشهد تحولات قد تغير خارطة الطريق التي صمغت آذاننا بها؟.
المركز الصحفي السوري ـ سماح الخالد