إيران التي تطمح، بعد الاتفاق النووي، إلى الانفتاح غربا، باتت تجد في الاقتراب من تركيا سلوكا تستظل به بشريك إقليمي يقيها أطماع ‘الحليف’ القادم من صقيع الشمال بحثا عن المياه الدافئة في المنطقة.
والأرجح أن الجانبين باتا مقتنعين بصعوبة الاتفاق السياسي في كافة ملفات النزاع المشتركة في المنطقة، وباتا أيضا مقتنعين بضرورات التعايش وفق شروط الخلاف، ذلك أن المواقف السياسية هي من طينة متحوّلة يُصلحُ نهارُها ما أفسده ليلُها، فيما العلاقات الاقتصادية هي من جنس الثوابت التي بالإمكان التأسيس عليها ليلا ونهارا. وفي لغة الأرقام تبادلٌ تجاري يجري على قدم وساق (22 مليارا عام 2012 انخفض إلى النصف العام الماضي)، وإن أربكت انسيابه أمزجة السياسة. وإذا ما راجت التبادلات في عزّ العقوبات الدولية ضد إيران، حين مثّلت تركيا لها منفذا ومتنسفا يقيها الاختناق، فحري بتلك التبادلات أن تجد آفاقا أوسع في موسم تحرر إيران من براثن الحصار الأممي (طموحات برفع التبادلات لتصل إلى 50 مليار دولار في الأعوام المقبلة).
وفي تفاصيل المحادثات بحثُ مشاريع النقل البري والجوي والسكك الحديدية بين البلدين، وتعزيز الروابط بين مرفأي “مرسين” و”طرابزون” في تركيا، و”بندر عباس” في إيران، من خلال خطيْ قطارات سريعة في البلدين، إلى جانب توقيع صفقة جديدة تشملُ تصدير الغاز إلى تركيا بأسعار تفضيلية، بما يوحي أن طموحات البلدين في تحقيق أرقام فلكية تؤسسُ لما يتجاوز نهائيا مواسم الخصام.
لكن بعيدا عن خطب الطرفين المتفائلة في دنيا المال والأعمال، أطلق الجانبان مواقف لافتة تتعلقُ بالملف السوري الذي يمثّل أقصى ميادين التناقض والمواجهة والتنافر بين تركيا وإيران. لا جديد يسمحُ باستشراف تراجع عن ثوابت طهران في سوريا لجهة دعم نظام بشار الأسد، والاستثمار بالمال والسياسة والنار والرجال دفاعا عن هذا الخيار. بالمقابل ما انفكت أنقرة تكرر لازمة تدعو إلى رحيل النظام وإلى إرساء آخر دون بشار الأسد، يشاطرها في ذلك موقف المملكة العربية السعودية التي تقود المواجهة الإقليمية الراهنة ضد إيران في ميادين المنطقة. ومع ذلك فإن مصلحة مشتركة قد ترسمُ ملامح تقاطع في رؤى البلدين، على الرغم من سريالية الأمر وغرابته.
تتشارك تركيا وإيران في التوجس من الصعود الروسي في المنطقة عامة، وفي سوريا خاصة. تسرّبت من إيران أصواتٌ باتت تخرج للعلن تعبّر عن سخط من قيام روسيا خلال أشهر بقطف ما استثمرته إيران في سوريا منذ عقود. تأمل الإيرانيون، بحسرة، تقلّص نفوذهم في الداخل السوري، وتراجع هيمنتهم على نظام دمشق، كما تصاعد سقوط جنرالاتهم منذ بدء الحملة الجوية الروسية في سوريا. لم يبخل الرئيس الإيراني حسن روحاني على مضيفه التركي في الكلام عن خلافات بين طهران وموسكو حول سياسات الرئيس فلاديمير بوتين في الشأن السوري. راح علي أكبر ولايتي مستشار المرشد علي خامنئي بعيدا حين هاجم الهدنة في سوريا واعتبرها مؤامرة لإزالة بشار الأسد عن السلطة في دمشق. ولئن وجّه ولايتي انتقاداته في هذا الشأن ضد الولايات المتحدة، لكن كان واضحا أن الكلام يتقصد “الحليف” الروسي صاحب الكلمة العليا في كل صغيرة وكبيرة في سوريا.
وإذا كان من خلاف بين إيران وروسيا، فإن الأمر يرقى إلى مستويات الخصومة والعداوة، بين تركيا وروسيا منذ أن أسقط سلاح الجوي التركي قاذفة روسية فوق الأجواء السورية.
لكن خطيئة روسية كبرى أيقظت الإيرانيين والأتراك على مشترك واحد. يبشر نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف العالم بأن الفيدرالية في سوريا باتت أحد الخيارات التي لا تمانع موسكو في القبول بها. في جوانب الخطيئة تبليغٌ لأولي الأمر، بما في ذلك إيران، أن القرار حول المستقبل السوري بات في يد موسكو؛ بيدها القبول والرفض واحتمالات الممانعة. وفي الجوانب الأخرى أن التجرؤ على اللعب بثوابت الحدود بين الدول والإعلان عن جهوزية في رسم حدود جغرافية جديدة بين وداخل بلدان المنطقة منطق خطر لا تقبل به إيران ولن توافق عليه تركيا.
لا تسمح تركيا بفيدرالية سورية وفق التسمية الروسية، وهي تقسيم مقنّع وفق ما يستشرف وزير الخارجية الأميركي جون كيري. وفي تناغم الوزيرين وتزامن تصريحيهما حول مستقبل الخارطة السورية المقبلة، ما يوحي بأن الجدل حول تلك المسألة بات واردا يخضع لنقاش، ولو أن توقيت التصريحين يوحي أيضا بأهداف تجريبية استكشافية لجسّ نبض السوريين، كما دول المنطقة المعنية مباشرة في الشأن السوري.
ترى أنقرة أن الفيدرالية التي تؤسس لكيان كردي مستقل شمال سوريا تمثّل خطر عدوى ينتقل نحو الداخل التركي، خصوصا أن من يقود هذه الطموحات الاستقلالية الكردية في سوريا (حزب الإتحاد الديمقراطي) هو امتداد لحزب العمال الكردستاني في تركيا. وإذا كانت في الأمر مفاعيل عدوى، فإنها مرفوضة أيضاً إيرانيا التي ما انفكت تمارسُ أقصى درجات القمع في إيران ضد “الانحرافات” الانفصالية الكردية التي تنشط لدى الأكراد هناك.
لكن الفكرة الفيدرالية – التقسيمية، لا سيما حين يتم طرحها من قبل المنابر الأميركية – الروسية، تتجاوز في خطورتها على تركيا وإيران المسألة الكردية فقط، ذلك أن القبول بسابقة كهذه في سوريا، بعد تعذّرها حتى الآن بالنسبة إلى العراق ومنع تداولها قبل ذلك في لبنان (إبان الحرب الأهلية)، سيؤسس لسقوط محرمات تتيح الإطلالة على حالتي تركيا وإيران، حيث التعدد الاجتماعي والإثني والمذهبي، لا سيما في إيران، يهدد البلدان بتفتيت يتجاوز حدود التصوّر.
يجتمع الرئيس الإيراني حسن روحاني ورئيس الوزراء التركي أحمد داودأوغلو على قاعدتين: الأولى، البحث عن سبل سياسية لحلّ النزاع في سوريا، والثانية، رفض أي سيناريوهات فيدرالية أو تقسيمية تنال من وحدة سوريا. يرشحُ من هذا الموقف تسليم مشترك بحقيقة محدودية النفوذ الذي يمتلكه البلدان في التأثير كثيرا على مسارات الأمور في سوريا، كما يرشح أيضا عزمٌ على تموضعٍ مشترك جديد للوقوف ندا أمام ظلال قيصرية تصادر في عتمة طموحَ البلدين في تعزيز نفوذ جاهرا في التوق له تحت الضوء.
وفي ما تسرّب من تداعيات السطوة الروسية في سوريا، أن نظام الأسد بات يفضّل الحلف مع موسكو عن ذلك مع طهران، وأن دمشق حين تقلقها نوايا موسكو ترسل المبعوثين إلى العاصمة الروسية لا إلى العاصمة الإيرانية على ما كانت تفعل قبل ذلك. وفي ما تسرّب أيضا أن إيران التي تطمح، بعد الاتفاق النووي، بالانفتاح غربا، باتت تجد في الاقتراب من تركيا سلوكا تستظلُ به بشريك إقليمي يقيها أطماع “الحليف” القادم من صقيع الشمال بحثا عن المياه الدافئة في المنطقة. وفي ما تسرّب أيضا وأيضا أن تركيا ترى في التفاهم مع إيران، وإمكانية أن تلعب دورا في تنشيط وساطة بين طهران والرياض، خيارا يعيد قرار المنطقة إلى “أهل” المنطقة ويعطّل مداولات يحتكرها الثنائي الروسي الأميركي، رعاة المآل السوري، منذ نجاحهما الصاعق في فرض هدنة على السوريين، كما على رعاتهما الإقليميين.
قد لا تكون في الأمر سريالية كبرى، بل منهج عقلاني حذق، وإن كان شقّه السعودي يبدو عصيا. بيد أن إعلان الرئيس الإيراني عن اتصالات لتوجّه وفد سياسي إيراني لزيارة الرياض، يعكس عقلية جديدة، في إيران وتركيا، لمقاربة خلاقة قد تحمل الكثير من المفاجآت، وفي أولى الإشارات الإيرانية وصول وفد من الحوثيين إلى السعودية. الأمر لم يعد سرياليا.
العربمحمد قواص