كما جرى في كافة العمليات العسكرية التي نفذها الجيش التركي في شمالي سوريا، يتوجب على أنقرة التوصل إلى تفاهمات سياسية وعسكرية مع الجانبين الأمريكي والروسي لتجنب الصدام خلال العملية العسكرية المتوقعة في منطقة معقدة عسكرياً وتخضع للتوافقات أو التنسيق بالحد الأدنى لتجنب الصدام بين القوى الكبرى الفاعلة على الساحة السورية.وفق جريدة القدس العربي
ولا يتعلق الأمر بحصول أنقرة على “ضوء أخضر” من موسكو وواشنطن، حيث تنفي تركيا مراراً حاجتها لذلك، وتؤكد على “استقلالية قرارها وتحركها بناء على احتياجات أمنها القومي”، وإنما يتعلق بدرجة أساسية بالقيام بالمحاولات والمساعي اللازمة لتجنب الصدام، وذلك من خلال التوافق على مسار العملية وحدودها أو فرضها على الأطراف الفاعلة أو “الإبلاغ” عن العملية بالحد الأدنى لإدراجها في إطار مركز التنسيق المشترك لتجنب أي صدام عسكري على غرار غرفة التنسيق العسكرية المشتركة بين الجيشين الأمريكي والروسي في سوريا.
وتهدف هذه الغرفة بدرجة أساسية إلى تجنب حصول اشتباك بين جيوش الدول النظامية الفاعلة على الأراضي السورية، والإبلاغ عن مناطق النشاط العسكري لجيش كل دولة وتحركات سلاح الجو، وهو ما يساعد في منع وقوع “حوادث غير مرغوب فيها” قد تؤدي إلى “نتائج كارثية”.
وفي السنوات الماضية، اضطرت روسيا لسحب قواتها المنتشرة في عفرين بالتزامن مع انطلاق عملية “غصن الزيتون” التي نفذها الجيش التركي في المدينة، كذلك سحب الجيش الأمريكي قواعد عسكرية مختلفة كانت تنتشر فيها قواته بمناطق مختلفة شملتها عملية “نبع السلام” شرقي نهر الفرات شمالي سوريا، وذلك بعد إبلاغ مسبق من قبل الجيش التركي ببدء عملياته العسكرية في تلك المناطق حتى دون التوصل إلى توافق أو حصول أنقرة على “ضوء أخضر” روسي أو أمريكي في الحالتين.
هذا هو السيناريو الأخير الذي تلجأ إليه تركيا، ويتمثل في الإبلاغ بالساعات الأخيرة بمناطق عملياتها العسكرية والطلب من القوات الروسية أو الأمريكية الابتعاد عن تلك المناطق لتجنب وقوع “حوادث غير مرغوب فيها”، لكنه يحمل في طياته الكثير من المخاطر المتعلقة بالرفض والصدام، لهذا السبب يسبق ذلك مفاوضات ومحاولات حثيثة للتوصل إلى تفاهمات سياسية تعطي ضمانات أكبر بعدم حصول أي صدام عسكري.
وفي هذا الإطار، تشير التطورات المتسارعة في الأيام الأخيرة إلى أن تركيا بدأت بالفعل ماراثونا من المفاوضات مع أمريكا وروسيا من أجل التوصل إلى تفاهمات حول العملية العسكرية المتوقعة التي قال الرئيس رجب طيب أردوغان إنها تهدف إلى إتمام المنطقة الآمنة التي أقامتها تركيا في شمالي سوريا بعمق 30 كيلومترا على امتداد طول الحدود السورية مع تركيا وهذا يشمل المنطقة الممتدة بين “درع الفرات” و”نبع السلام” وهي مناطق من عين العرب ومنبج وتل رفعت، إلى جانب الشريط الحدودي شمال شرقي سوريا من رأس العين إلى الحدود العراقية وهو ما يشمل مناطق من ريف الرقة والحسكة والقامشلي وغيرها، وهي في مجملها مناطق تتقاسم روسيا وأمريكا النفوذ فيها بشكل مباشر وغير مباشر.
ويعتقد أن الحرب في أوكرانيا وتباعاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاستراتيجية تعتبر متغيراً أساسياً في المفاوضات الجارية بين أنقرة من جانب وموسكو وواشنطن من جانب آخر، حيث تسعى تركيا لاستغلال التطورات الأخيرة لحصد مكاسب سياسية تمكنها من فرض واقع عسكري جديد شمالي سوريا.
فمع الجانب الروسي تضغط أنقرة للحصول على ضوء أخضر من موسكو لتنفيذ عملية عسكرية محسوبة في بعض المناطق شمالي سوريا كـ”رد للجميل” على الموقف التركي “المتزن” من الحرب الروسية على أوكرانيا، ورفض أنقرة اتخاذ مواقف حادة ضد روسيا سواء فيما يتعلق بإغلاق المضائق -أنقرة اتخذت موقفاً وسطياً بإغلاق المضائق أمام كافة سفن روسيا والناتو- أو فيما يتعلق بالمشاركة في العقوبات.
وفي تصريح لافت، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إن تركيا “لا يمكنها أن تقف جانبا حيال ما يجري من تطورات في سوريا”، وأضاف الوزير الروسي: “الجيش الأمريكي، الذي احتل جزءا كبيرا من الضفة الشرقية لنهر الفرات، ينشئ بشكل علني تشكيلات شبه دولة هناك، ويشجع الانفصالية بشكل مباشر، مستخدما لهذا الغرض مزاج جزء من السكان الأكراد في العراق.. لا يمكن لتركيا بالطبع أن تقف جانبا”، ورغم أن التصريح رأت فيه مصادر تركية “تفهماً” روسياً، إلا أنه من الصعب التكهن بقبول موسكو بتوسيع الجيش التركي مناطق سيطرته في شمالي سوريا، حيث يبقى الباب مفتوحاً أمام ما ستفضي إليه نتائج المباحثات بين الجانبين في الأيام المقبلة وخاصة فيما يتعلق ما إن كانت روسيا ستعرض مطالب تتعلق بمناطق النفوذ في إدلب ومحيطها مقابل ذلك.
أما على الجانب الأمريكي، تسعى تركيا وبشكل واضح إلى استغلال رغبتها في القيام بعملية عسكرية جديدة شمالي سوريا لإحراج حلفائها في الناتو وذلك من خلال اختبار مواقفهم من احتياجاتها الأمنية والقومية المتعلقة بتهديد العمال الكردستاني وما تقول إنها أذرعه في سوريا والعراق، وذلك بإجبارهم على عدم إدانة العملية بل وتقديم الدعم لها لمعالجة مخاوفها الأمنية والعسكرية بحسب ما تنص عليه أسس الحلف.
وفي هذا الإطار يمكن فهم الإعلان عن اقتراب العملية العسكرية عقب طلب فنلندا والسويد الانضمام إلى حلف الناتو وتأكيد أنقرة رفضها الموافقة على هذا الطلب من دون أن يوقف البلدان ما تقول أنقرة إنه دعم عسكري وسياسي يقدمانه لأذرع تنظيم بي كا كا حيث تجري مفاوضات حثيثة بين الجانبين اضطرت فيه البلدان لتجديد اعتبارهما “بي كا كا” تنظيماً إرهابياً.
وفي ظل الرغبة الفنلندية والسويدية الجامحة بإتمام ملف الانضمام للناتو بدعم من واشنطن ومعظم العواصم الغربية تسعى أنقرة لإطلاق عمليتها العسكرية لإحراج كافة الأطراف واعتبار ذلك بمثابة اختيار عملي لكافة الأطراف التي ستكون أمام خيارين إما الصمت وعدم انتقاد العملية التركية أو إعلان الموقف التقليدي بإدانة العملية والمطالبة بوقفها وصولاً لفرض عقوبات على صادرات الأسلحة لتركيا وهو ما من شأنه نسف مسار انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو.
المركز الصحفي السوري
عين على الواقع