“درع الفرات” اسم لعملية عسكرية فاجأت الجميع في يوم واحد, ولكن ما دلالة تسميتها بهذا الاسم؟.
يرتبط اسم هذه العملية باسم نهر الفرات الذي ينبع من الأراضي التركية ويمر في الأراضي السورية ثم يكمل طريقه نحو شط العرب مرورا بدولة العراق, يدخل هذا النهر الأراضي السورية عند مدينة جرابلس الحدودية التي تقع على الحدود “السورية-التركية” وبذلك يشطر الأراضي السورية في الشمال إلى قسمين قسم شرقي وقسم غربي, وفي كلا القسمين المذكورين تتنوع التركيبة “الديموغرافية” للسكان على الأرض, حيث يتقاطع وجود المجموعات من المكونات القومية والعرقية, كالأكراد والتركمان والأرمن والأشوريين والعرب.
لسنا بصدد الخوض في الزاوية التاريخية لوجود هذه القوميات المنتشرة على ضفتي الفرات الشرقية والغربية من الأرض السورية, كما يحاول بعض الانفصاليين الخوض في غمارها, ولكن يجب علينا أن نفهم, لماذا كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن مصطلحي غرب الفرات وشرق الفرات, لنكوّن فكرة بسيطة عن فهم آلية ضرب عمق الجغرافية السورية بمشاريع انفصالية باتت مطروحة وبشكل كبير في سياق الحل السياسي الذي تحاول بعض الأطراف الدولية فرضه من الخارج لإجهاض نتائج الحركة الثورية في سورية, وطبعا كل ذلك يحدث وفق تفاهمات واتفاقات صريحة ومخفية بما يخدم مصالح تلك الدول اللاعبة في الساحة السورية سياسيا وعسكريا.
يجمع العديد من المراقبين السوريين والعرب والأجانب على أن المستفيد الأكبر من نتائج النزاع المسلح في سورية هم الأحزاب الكردية المسلحة التي لم تنخرط وبشكل مباشر في أي عملية صراع مسلح مع النظام السوري منذ بداية الثورة كما فعل ذلك الجيش الحر ومختلف فصائل الثورة والمعارضة المسلحة, بل بدأت تستفيد من عوامل عديدة قدِّمت لها على طاولة من “ذهب” وفي مقدمتها استغلال عامل الفوضى وتراخي قبضة النظام الأمنية والعسكرية بعد أن تمكن الجيش الحر من إرهاقه وتشتيت تركيزه على مجمل الأراضي السورية, إضافة لموقفها الضبابي في بداية الأمر من النظام والمعارضة على حدٍ سواء, حيث وقفت على مسافة واحدة من كل منهما, فبدأت ببناء نفسها وفق “إيديولوجية” المصالح الحزبية القومية الضيقة بعيدا عن المصلحة الوطنية العامة, ثم قامت بتقديم نفسها على الطاولة الدولية كلاعب أساسي يستطيع أن يحقق المكاسب الأولوية للدول الكبرى في سورية ألا وهي “مكافحة الإرهاب”, حتى لو اضطروا إلى التعاون مع النظام السوري أيضا بطريقة الاستلام والتسليم للإدارة وفق منهجية المصلحة المتبادلة, كل هذه الأحداث جعلت من موقف تلك الأحزاب الكردية المسلحة وفي مقدمتها ما يعرف “بوحدات حماية الشعب الكردي” التي تتركز وبشكل أساسي في منطقة شرق الفرات السورية, تبدو وكأنها حركات قومية انفصالية بدأت بتنفيذ المشاريع والأجندات الانفصالية على الأرض بمسميات مختلفة منها “الإدارة الذاتية” ومنها “الفيدرالية”, بعد أن تلقت تلك الوحدات دعما كبيرا “سياسيا وعسكريا”من الدول الفاعلة في الأزمة السورية كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا, شكَّل هذا اللاعب الجديد ” اللاعب الكردي”, حالة جديدة خلطت الأوراق من جديد بعد أن أدت إلى تشكيل أحلاف جديدة في المنطقة انعكست سلبا على بعض التحالفات الإقليمية القديمة “التحالف الأمريكي-التركي”.
وهنا بدأ الجانب التركي يعيد حساباته القديمة وفق الصورة الراهنة من التوازنات الجديدة, هناك خطر كردي سيكون واقعا مفروضا على طول الحدود “التركية-السورية”.
وبالعودة للخريطة الجغرافية السورية, تبدو الضفة الأخرى من نهر الفرات “الغربية” هي الملاذ الوحيد للموقف التركي والخيار الأخير الذي يتوجب على الدولة التركية المحافظة عليه من خطر تمدد الكيان الكردي الانفصالي نحوه وبالتالي ربط المناطق الشرقية “الجزيرة وعين العرب” بالمناطق الغربية “عفرين” وصولا إلى شواطئ البحر المتوسط, ولا سيما أن الحكومة التركية تدرك جيدا أنها تستطيع اللعب بورقة الضفة الغربية نظرا للبنية السكانية “الديموغرافية” فيها والمختلفة بشكل كبير عن نظيرتها الشرقية, حيث توجد العديد من المدن السورية ذات الأكثرية العربية والتركمانية والتي تشكل عائقا أمام توحيد شريط الحلم الكردي بطريق الوصول إلى عفرين, فعمدت السلطات التركية إلى دعم المعارضة السورية والجيش الحر الذي اتخذ من تلك المنطقة الغربية قاعدة له منذ بداية الأحداث وحتى اليوم وخصوصا في حلب وإدلب.
طرحت الحكومة التركية منذ البداية خيار إقامة المنطقة الآمنة على الحدود السورية_التركية, وتمتد هذه المنطقة من مدينة اعزاز حتى مدينة جرابلس لتحقيق غايتين أساسيتين وهما:
تخفيف الضغط الذي تعانيه تركيا جرّاء موجات تدفق النازحين السوريين إلى داخل أراضيها من جهة, وقطع الطريق على أي مشروع انفصالي في الشمال السوري بما يهدد الأمن القومي التركي في الداخل من جهة أخرى, إلّا أن المجتمع الدول لم يبدي أي تحرك إيجابي إزاء الطرح التركي وعطّله مرارا وتكرارا.
إذن الخطة التركية بالتدخل في الشمال السوري بشكل جزئي أو ربما محدود, ليست وليدة اللحظة, بل هي مشروع تم إعداده منذ سنوات, يتساءل المتسائلون لماذا اليوم ومن جرابلس تحديدا؟!
نستطيع القول أن جميع الأطراف تحاول أن تقدم المبررات للتدخل في سورية عن طريق تقديم نفسها كطرف أساسي ومساهم فيما يعرف “بمكافحة الإرهاب”, بعد أن تمكن “تنظيم الدولة الإسلامية” من التمدد على مساحات واسعة من العراق وسورية وصولا لمنطقة الحدود السورية التركية في جرابلس تحديدا والتي تقع على الشريط الحدودي بشكل مباشر.
وبالمحصلة فإن الأطراف جميعها فهمت صلب الرغبة الأمريكية بالتركيز على مكافحة تمدد تنظيم الدولة الإسلامية كخطة أساسية اعتلت هرم الأولويات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط, ومن هذا الباب دخلت روسيا بدعمها الكبير للنظام السوري منذ عام تقريبا وحتى اليوم, وتحت هذا البند ترسل إيران الآلاف من المقاتلين “الطائفيين” إلى سورية والذين يقاتلون إلى جانب قوات النظام السوري وعلى جميع جبهاته, وحتى النظام السوري نفسه لم يتوقف يوما عن روايته الشهيرة بوصف جميع المسلحين السوريين بأنهم “إرهابيون”, أو أدوات بيد الإرهاب, والآن نجد أم الوقت قد حان لتلعب الحكومة التركية هذا الدور لتسحب البساط من تحت أقدام “المقاتلين الأكراد” الذين اعتبرتهم الولايات المتحدة الأمريكية كأداة فعَّالة في حرب الوكالة التي تخوضها ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
وبالعودة لمعركة “درع الفرات”, جاء توقيت هذه المعركة في وقت عملت له تركيا جيدا لإعادة التوازن في علاقاتها الدولية من جديد وكبج “جماح” انحراف مسار التوازنات في المنطقة كما تعتبره الدولة التركية.
بعيدا عن التركيز على الجانب العسكري فقط من الصورة الجديدة, وبالنظر إلى الجانب السياسي منها, نجد أن كل التسارع الحاصل في تلك الأحداث بدأ تحديدا بعد زيارة الرئيس التركي لروسيا “رجب طيب أردوغان” ولقائه بنظيره الروسي “فلاديمير بوتين”, بالتزامن مع التقارب بين الموقفين التركي والإيراني أيضا, كل هذه التحركات التركية الدبلوماسية أفرزت موقفا
جديدا يدعو إلى عدم إطالة أمد الصراع في سورية, عن طريق إعطاء النظام السوري فرصة قد تكون محدودة وفق الإرادة التركية بالمساهمة في إدارة المرحلة الانتقالية من خلال السماح لرئيس النظام “بشار الأسد” بالتواجد فيها بحيث تنتهي تلك التسوية السياسية إلى رحيله في نهاية المطاف, مقابل أن تغير الدولة الروسية موقفها من دعم الأكراد في سورية, ويمكننا القول ان الحكومة التركية قد نجحت في استمالة الموقف الروسي, مقابل تقديم بعض التنازلات التي توازن بين موقفها القديم والجديد من دعم الثورة السورية, بخلاف الموقف الروسي الذي مازال داعما “للأسد” وبشكل مباشر وعلني حتى الآن واقتصرت التنازلات الروسية بالتخلي عن الدعم السياسي وربما العسكري الذي تقدمه للأكراد في سورية, مقابل إفساح المجال للأتراك بالتحرك العسكري الضيق في الشمال السوري “جرابلس” عن طريق دعم فصائل الجيش الحر في معركتهم ضد تنظيم الدولة كهدف معلن وتمكينهم من السيطرة على الضفة الغربية للفرات كحط دفاع ضد المشروع الانفصالي الكردي بشكل مبطن, والدليل على أن الحكومة التركية قد استطاعت كسب التأييد الروسي في عملية “درع الفرات”, هي أن السلطات الروسية اكتفت بالتعبير عن قلقها تجاه التطورات الأخيرة, بلهجة مخففة للغاية لم نعتد على سماعها عن لسان المسئولين الروس منذ بداية الأزمة السورية حتى اليوم, بالطرف المقابل استفادت تركيا من عامل الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت في المدن الكردية الإيرانية, للتوصل مع القيادة الإيرانية على صيغة مشتركة بعدم المواجهة الإيرانية مع تركيا في حال تدخلها في سورية, عن طريق إيصال رسائل لطهران أن المشروع الانفصالي الكردي لن يطال تركيا وحدها!, وتماشيا مع الرغبة الروسية اكتفى النظام السوري بالتنديد بالتدخل التركي في جرابلس, بصورة تعبر عن رغبة النظام بالتماس نوع من التفاهم مع الموقف التركي الذي يدرك النظام جيدا أن تغبره سينعكس بصورة أو بأخرى سلبا على الدور العسكري المتنامي للمعارضة السورية في الشمال.
أما الولايات المتحدة الأمريكية فهي تحاول مسك العصا من المنتصف, عن طريق اتباع سياسة المد والجزر في دعم مواقف حلفائها على الأرض كدول وأحزاب, فتداركت الموقف مباشرة عن طريق تقديم الدعم الجوي لفصائل المعارضة في معركة درع الفرات, تحت ستار دعم من يحارب الإرهاب!, وبذلك استطاعت أن تمتص الغضب التركي تجاه السياسة الأخيرة التي تتبعها الإدارة الأمريكية بالدعم المباشر للأكراد في سورية, بل وزادت على ذلك بزيارة لنائب الرئيس الاميريكي “جو بايدن” إلى العاصمة التركية أنقرة, أعقبتها تصريحات له تعبر عن طلب الولايات المتحدة الأمريكية للمقاتلين الأكراد بالانسحاب من مدينة منبج والعودة إلى حدود شرق الفرات.
في النهاية تبدو جميع الأطراف المتصارعة أو المساهمة في النزاع السوري وبشكل مباشر, كانت على علم مسبق بالنية التركية لدخول جرابلس في هذا الوقت الذي انتظرته تركيا طويلا, وتبدو كأنها راضية عن ذلك بصورة أو بأخرى وبدرجات متفاوتة كلٌ حسب تطلعاته المستقبلية لمصيره من تقاسم السلطة أو الأرض في الدولة السورية.
ولكن هل ستزيد معركة درع الفرات من المطامع المستقبلية التركية بتوسيع رقعة امتداد حلفاءها “الجيش الحر” على الأرض وخصوصا اتجاه مدينة “الباب” بالشكل الذي يعد تهديدا لوجود النظام في مدينة حلب؟.
قد لا يبدو هذا الطرح منطقيا لأن الحكومة التركية تدرك جيدا المساحة المتاحة لها من نصيبها في معركة “مكافحة الإرهاب”, فضلا عن كون الموقف التركي محكوم بإطار التفاهم المرحلي مع موسكو وطهران, وإعادة السخونة للمسار السياسي الأميركي- التركي الذي مرَّ بالعديد من المنعطفات الباردة.
أظهرت تلك المعركة الأخيرة في جرابلس عن حقيقة كون أن الانفصاليين الأكراد هم أدوات تتحرك بدعم دولي ولا يستطيعون رفض إملاءاته حتى ولو كانت بعكس إرادتهم في كثير من الأحيان, و أن تنظيم الدولة الإسلامية هو كبش الفداء في كل مرحلة وفي كل مخطط, رغم أن التنظيم وبما يعرف عن مفاجأته الكبيرة, قد عانى في الفترة الأخيرة من مجموعة تراجعات وانكفاءات, ولكن من يدري قد تعود “سمكة الصحراء” إلى الساحة من جديد لتجبر الأطراف الدولية جميعها على إعادة حساباتها معه والتركيز على خلق طرف جديد يحاول تقديم خدماته في “مكافحة الإرهاب”.
وبعيدا عن كل تلك المعارك والمواقف والتوازنات والتفاهمات, تستمر معاناة الشعب السوري في الداخل وتستمر المجازر المرتكبة بحقه يوميا, وكأن شعار الأطراف الدولية هو “حرمة الدم السوري ليست طرفا من تفاهماتنا!”.
المركز الصحفي السوري-فادي أبو الجود.