تخشى ألمانيا وبالمثل جيرانها في أوروبا من تبعات فترة حكم الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب على مستقبل العلاقات الأوروبية والأميركية خاصة وأن هذه العلاقات شهدت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما تحالفا وتوافقا استراتيجيا، وهو ما جسده وداع أوباما لبرلين في زيارته الرئاسية الأخيرة، حيث صرّح قائلا “الروابط القوية بين ألمانيا وأميركيا جوهرية للنظام العالمي”.
وتتخوف برلين من أن تغيّر السياسات الأميركية الجديدة النظام العالمي القائم على القيم الغربية الحرة المكرّسة لليبرالية، وانتقاله إلى نظام إقصائي توظف فيه الشعبوية والأفكار القومية المحافظة.
ومن أبرز المخاوف التي تواجهها ألمانيا أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ستعمل جاهدة، كما وعدت أثناء الحملة الانتخابية، على تعزيز العلاقات مع روسيا ومحاولة إضعاف مكانة منظمة حلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى إنهاء الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب وتجاهل التغيرات والعواقب المناخية لتلك المساعي. أما عن المصدر الرئيسي لقلق برلين، فيأتي بشأن الصادرات الألمانية، حيث هددت إدارة ترامب بالفعل بفرض تدابير تجارية حمائية، مما سيوجه ضربة قوية للاقتصاد القائم على الصادرات الألمانية.
وفي كلتا الحالتين، فإن احتمال وجود علاقة باردة مع واشنطن يعمل على إرباك برلين، خاصة في الوقت الذي يتورط فيه الاتحاد الأوروبي في أزمة سياسية عميقة. لذلك من المتوقع أن تلجأ ألمانيا خلال الشهور المقبلة بلا شك إلى تعزيز علاقاتها مع الرئيس الأميركي الجديد، والقيام ببعض المعاهدات الدبلوماسية لمناقشة قضايا الدفاع والأمن، في الوقت الذي ستحاول فيه ثني البيت الأبيض عن إعلان حرب تجارية ضد برلين. ولكنه ليس من السهل أبدا عليها حماية اقتصادها، خصوصا مع تصاعد الخطاب الشعبوي داخل دول القارة وحول العالم.
استراتيجية برلين
على الرغم من أن سياسات ترامب لم تأخذ شكلا جديا بعد، إلا أن ألمانيا وضعت استراتيجيتها المسبقة لمجابهة تلك السياسات. وسيكون من ضمن أولوياتها عقد صداقة وثيقة مع الحكومة الأميركية الجديدة. وتعتبر العلاقات بين مسؤولي ألمانيا وفريق ترامب محدودة حتى الآن، حيث أنهم لم يكونوا على دراية كافية بما كانوا يخططون له.
ولكن علاقة ألمانيا كحليف قوي بالولايات المتحدة كانت ولا تزال وستظل حجر الأساس للسياسة الألمانية الخارجية، وستفعل ألمانيا كل ما بوسعها للحفاظ على ذلك التحالف. وقد عملت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على تعزيز هذا المنحى عبر إرسال عدة مبعوثين رفيعي المستوى إلى واشنطن.
وفي منتصف ديسمبر الماضي، التقى رئيس السياسة الخارجية ومستشار الأمن كريستوف هويزغن مع بعض مستشاري ترامب، كما تحدث نائب وزير المالية يانز سبان، في منتصف يناير الماضي مع أعضاء فريق ترامب الانتقالي حول فائض الحساب التجاري بألمانيا.
ومن المنتظر أن تنعقد المزيد من الاجتماعات في هذا الشأن خلال الأشهر المقبلة. فعلى سبيل المثال يمكن لمسؤولي الولايات المتحدة حضور مؤتمر الأمن الذي سيعقد بميونيخ من 17 إلى 19 فبراير المقبل، وعندها سيغتنم نظرائهم الألمان تلك الفرصة لمحاولة تعزيز العلاقات الجيدة بينهم.
وسوف تقوي ألمانيا موقف رئاستها لمجموعة قوى الاقتصاد العالمية “مجموعة 20″ للحصول على المزيد من الوقت مع القادة الأميركان أثناء انعقاد مؤتمر وزراء الخارجية في بون بين 16 و17 فبراير المقبل، وكذلك أثناء انعقاد قمة رؤساء الدول في هامبورغ يومي 7 و8 يوليو. وسوف تزور ميركل الولايات المتحدة في الربيع المقبل على هامش الترتيبات الخاصة بقمة هامبورغ، وعقد أول اجتماع لها مع ترامب في هذا الخصوص.
في الوقت ذاته وعلى الصعيد العسكري، ستتخذ ألمانيا خطواتها اللازمة في هذا الشأن. ولم يكن ترامب الرئيس الأوحد الذي يطالب الدول الأوروبية وأعضاء حلف شمال الأطلسي بزيادة الإنفاق لتعزيز قوى الدفاع. ولكنه بالفعل أول رئيس ينعت التحالف بـ”عفا عليه الزمن”، ويعلن رفضه لحماية الأعضاء الذين لن يحققوا هدف الإنفاق لتعزيز قوى الدفاع الذي حدده حلف الناتو ليمثل 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي.
وفي 18 يناير الماضي، أعلن وزير الدفاع الألماني أن برلين سوف تزيد من ميزانيتها العسكرية هذا العام بحوالي 2 مليار يورو لتصل إلى 37 مليار يورو إجمالا، وهو ما يمثل 1.2 بالمئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي، مما قد يعرقل تحقيق الهدف المنشود من قبل حلف الناتو. ولكن ألمانيا تعهدت بالاستمرار في زيادة ميزانيتها العسكرية على مدى السنوات الثلاث المقبلة. كما تتطلع أيضا للحفاظ على تعاونها الوثيق مع الولايات المتحدة في قضية مكافحة الإرهاب.
وتتطلع برلين أيضا إلى إجراء تغيير شامل في الخطة الدفاعية الأوروبية بشكل كامل. كما دعت ألمانيا في الأشهر الأخيرة الماضية إلى التعاون العسكري بالتنسيق المشترك مع الاتحاد الأوروبي، وعملت مع المفوضية الأوروبية على طرح مقترحات خاصة في هذا الشأن، وسيتم عرضها في النصف الأول من هذا العام. وعلى الرغم من أن تلك المقترحات من الممكن أن تؤثر سلبا على بعث “جيش الاتحاد الأوروبي” الذي دعت إلى إنشائه بعض الدول ومنها إيطاليا، فإنه من المرجح أن يؤدي ذلك إلى تجميع الموارد وتنسيق الإنفاق العسكري والبحوث الخاصة بالقارة ككل.
العقوبات على روسيا
تسعى ألمانيا جاهدة بالرغم من المشاحنات السياسية الراهنة للحفاظ على موقف أوروبا بشأن العقوبة المفروضة ضد روسيا. ومن المرجح أن تنتهي العقوبة الموقعة في يوليو القادم، والتي يمكن تجديدها عن طريق التصويت بالإجماع في الاتحاد الأوروبي.
ولكن كلام ألمانيا لا يعتد به إذا ما حاولت إقناع باقي دول القارة على مواصلة فرض العقوبات على روسيا وخصوصا في حال لم تقدم الولايات المتحدة مقترحا جديا، حيث تعتبر واشنطن حتى الآن المحرك الأساس والقوة الضاغطة وراء إجماع الدول الأوروبية على فرض العقوبات على روسيا.
وتراهن ألمانيا على أنه إذا قرر ترامب رفع العقوبات الأميركية عن روسيا، فسوف يواجه مقاومة شرسة من بعض أعضاء حكومته والكونغرس. ولكن الأكثر من وجود حكومة مناهضة لروسيا في واشنطن -وقريبا في باريس أيضا- فإن فرص رفع العقوبة جزئيا عن روسيا من قبل الاتحاد الأوروبي، سيتم تطبيقها في النصف الثاني من هذا العام.
كما تتمسك برلين حتى الآن بموقفها المتشدد ضد موسكو. ويذكر أن وسائل إعلام ألمانية كانت قد حذرت من أن روسيا قد تحاول التدخل في الانتخابات المقبلة التي ستجرى في ألمانيا ودول أوروبية أخرى.
وتراقب برلين روسيا التي لا ترفض أحزاب اليمين المتطرف التقارب معها، لذلك من المتوقع أن تحافظ ألمانيا على قنوات اتصالها مع موسكو، حيث تناقش ميركل قضايا النزاعات الأوكرانية والسورية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وأشارت مصادر إعلامية في ألمانيا إلى أن برلين تحث بعض المسؤولين الروس على المشاركة في مؤتمر القمة القادم (مجموعة 20)، وذلك كدليل على أن ألمانيا تحافظ على سياستها الخارجية. ولن يكون أمام ألمانيا أي خيار آخر سوى تحسين العلاقات مع موسكو، إذا رأت تطورا في العلاقة بين روسيا والولايات المتحدة على الجانب الآخر. ولكن إذا حدث تقارب روسي أميركي، فسوف تضطر ألمانيا للتخلي عن تحذيراتها لأعضاء الاتحاد الأوروبي في شرق أوروبا.
وتستعد ألمانيا خلال الأشهر المقبلة لمواصلة السير على طريق التعددية الذي اتخذته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كالاعتماد على المنظمات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي لمعالجة مشكلاتها الخارجية. ولكن يبدو أنه من الصعب عليها اتباع تلك الاستراتيجية خصوصا أن التعاون الثنائي الإقليمي مهدد بأن تحل محله تدريجيا الأفكار القومية المحافظة القائمة والإقصائية أساسا والمتحدية للفكر الليبرالي التي نادت به أوروبا.
وستبذل ألمانيا كل ما في وسعها للحفاظ على وحدة الاتحاد الأوروبي، إذ تعد أنجيلا ميركل آخر زعيمة للفكر الحر التي تترصد الشعوبية وتعمل على مواجهتها، خاصة وأن تداعياتها باتت جلية في المجتمعات الأوروبية ولا يمكن تجاهلها.
العرب اللندنية