“الحياة فيها كثير من المفاجئات، وفيها آلام وفراق قد لا نتوقعها” هكذا بدأ مصطفى قصته وهو يرويها، ذهب مصطفى إلى الخدمة العسكرية الإلزامية مع بداية الأحداث في سوريا، عام 2011 بالتحديد.. “قبل سوقي بأيام إلى الخدمة الإلزامية كنت في حيرة من أمري، لم أعرف هل عليّ الذهاب أم لا، ولم أعلم ما الذي يحدث فالكل منقسم بين مؤيد ومعارض، ما استطعت تحديد الصواب من الخطأ.. لكنني قررت أن أذهب دون أن أدري أهو الصواب أم لا؟”.
فتحت دفتر الخدمة العسكرية ووجدت فيها كلمة “يساق” تلك الكلمة التي تستخدم مع الماشية في اللغة العربية وليست مع البشر، لم أدرك معناها حينها إلى أن ذهبت هناك ورأيت من ألوان الذل ما يثبت لي أننا كنا مجرد قطعان تساق إلى مرعاها أو مذبحها، بدأت رحلتي منذ أن جمعنا في سيارة صغير وجلسنا فوق بعضنا لنذهب إلى ثكنة هنانو حيث نوزع على مناطقنا.
لن أتحدث عمّا لاقيته هناك، من قساوة التدريب لكن كان ما يزعجني أنني كنت أخشى الصلاة أمام أحد، وكنت أتحين الفرصة لأصلي منفردا في المهجع الذي كنت أنام فيه، كوني فتى سنياً يعني أن صلاتي تفسر على أني إسلامي وأعرف الصورة السوداء التي رسموها حول الإسلاميين، وأن الجهر بالصلاة تزيد في الشك بي خصوصا مع تزايد وتيرة الأحداث والتوترات في سوريا، إلى أن قطعت الصلاة نهائيا فيما بعد، لم أصم رمضان طوال فترة وجودي في الخدمة لما وجدت من إنهاك في صومه، لأن الضابط كان يقوم باختيار أصعب المهام وتكثيف التدريب في حر الشمس للمجند الصائم.
كانت أياما مزرية لم أعرف فيها طعم الراحة، فشوقي لوالدتي كان يزيد، وخصوصا أنني لم أذهب أية إجازة طوال فترة خدمتي العسكرية على مدى سنتين ونصف، والإجازة تعطى حسب الرشاوي التي تدفع للضابط.. قررت الانشقاق والعودة إلى بلدي لأرى أمي وعائلتي التي حرمت رؤيتها، كانت هناك شكوك حولي لم يتأكد منها الضابط إلا أنه قام بحبسي بصندوق حديدي صغير لا يتجاوز المتر وتركي يومين كاملين فيه حتى أعترف بنيتي بالانشقاق.
وضعت رسالة في جيبي الأيمن كانت قد كتبتها أختي الصغيرة لي قبل مغادرتي “أحبك مصطفى.. تروح وترجع بالسلامة” وفي جيبي الأيسر وضعت مسبحة أمي لتكون بجانب قلبي.. وبعد اتفاق سري قمت به مع أحد أصدقائي المنشقين، هربت من قطعتي العسكرية تاركا ورائي سلاحي وجميع أشيائي رحلة طويلة من درعا إلى إدلب، أحسستها أطول من أيامي التي قضيتها هناك في درعا.
عدت إلى إدلب.. إلى إحدى القرى المجاورة للمدينة، تنفست هوائها كأني أتنفس لأول مرة.. قبّلت ترابها على أمل أن أكون بإدلب المدينة قريبا.. مرت سنة ونصف كانت تأتي أمي لزيارتي كل شهرين، أحضها خلال زيارتها على العودة بسرعة إلى المدينة خوفا عليها من الطيران.. خوفي الذي عرف طريقه إلى قلبي، وعلم أن طيران النظام الحربي هو ما سيحرمني من أمي مجددا.. فبعد أربع سنوات من غيابي عن مدينة إدلب.. أعود إليها.. أسابق الريح مع أول تكبيرات التحرير.
لكن كانت سرعة حقد النظام على المدينة أكبر.. خمس دقائق فقط تفصلني عن عائلتي، قصفت الطائرة منزلي وتوفت أمي التي كانت تنتظرني وقد أعدت “المحاشي” ، لم أرى إلا أشلاء لها وبقايا ثوبها.. فأقسمت أنني لن أنام أو أرتاح حتى أنتقم من ظلم نظام لم يتوانَ أبدا في حرمان الآلاف من الأشخاص من عائلاتهم وأسرهم.
المركز الصحفي السوري – آية رضوان