العبادي لم يطلب من أميركا أن تضحي بدم مقاتليها، فالدم متوفر في مخازن العراق وجريمة الموصل تدلل على هزال بالغ في الإذعان لنشوة الرغبة الأميركية واستراتيجيتها رغم تكديس الولاء لوصايا المرشد تحت طاقية الإخفاء.
يقول قائد عسكري عراقي بعد الفضيحة العسكرية لاستهداف المدنيين وتداعياتها على مستوى قوات التحالف أو قيادة عمليات “قادمون يا نينوى” وتخبط رئيس الوزراء في تصريحاته وتبريراته وتوجيهاته، إنه “تم تقييد قواعد الاشتباك بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة بما يتناسب ومعارك الشوارع التي تخوضها القوات في أحياء الموصل القديمة”، وهو اعتراف ضمني بأن الأسلحة لم تكن مقيدة بإطلاق النار قبل إصدار التوجيهات الجديدة.
أحيانا نساهم في الكتابة، خاصة عندما نستبق المحاذير، بتوجيه الأمنيات ربما في إدارة معركة بأقل الخسائر من المدنيين والقوات العسكرية أيضا وبأسرع وتيرة وبخطط عسكرية ملهِمة كما نتوقع. الزمن وإطالة التطويق والحصار في ظل حالة استثنائية من الإرهاب واحتجاز الآلاف من العُزّل وتركهم دون إنقاذ، كلها أساليب قتال عقيمة تصل حد السذاجة لوجود عدد كبير من الدول المشاركة في التحالف بإمكانياتها التقنية والقتالية وحجم الأفراد في القوات النظامية العراقية.
توقعنا، وهذا طبيعي، أن القوات المجوقلة أي المحمولة جوا، وهي قوات خاصة تمتاز بالتدريب الاحترافي، سيكون لها الدور البارز في المهمات الصعبة التي تبدو في العلم العسكري مغلقة وعسيرة، وحلول الخطط التقليدية لا تقدم ولا تؤخر في عمليات الإنقاذ وانتشال الأبرياء من محنة تنظيم أهم أدواته استغلال حياة المجاميع البشرية في رهانه على تحقيق انتصاراته ودعايته وتسويقه لقوته وتوازن رعبه مع القوات المهاجمة المجهّزة بكل المعدات والقدرات القتالية.
لكن القوات الخاصة استمرت في واجباتها المكلفة بها بصيد المقاتلين من التنظيم، وهـم قناصون على أسطـح البنايات، كما حدث من خلال جر المقاتلات الحربية لتقصف المنـازل في المـوصـل الجديدة بما يشبه الفخ، وهي هدية مكشوفة، وأولى واجبـات القوات العسكـرية التحقـق ثم إصابة الهدف ومعالجته بالأسلحة المناسبة.
هل يعقل أن يصاب قناص يحتمي بالمدنيين ويتخذهم دروعا بصاروخ مثلا؟ أكيد أن القوات الخاصة، وهي قوات غير عراقية، تؤدي دورها في معركة الموصل ضمن معركة التحالف الدولي ضد الإرهاب، وبمعنى أكثر دقة في الحرب العالمية على الإرهاب، دون أن يكون لها الاستعداد للتضحية ولو بجندي واحد في معركة خسرت فيها الموصل الآلاف من الضحايا من مواطنيها وأيضا من المقاتلين العراقيين الذين يدفعهم القائد العام للقوات المسلحة في حرب تقليدية بأساليبها وأدواتها، أي أنه ضحى بالمدنيين أولا ثم أُرغِمَ على إعادة سير قواته لخوض حرب شوارع خطوة بخطوة وبخسائر حتمية من أجل أن تكون المعادلة السياسية القادمة تحريره للموصل بعد أن سلمها منافسه أو سلفه نوري المالكي إلى إرهاب داعش.
بهذا نتبيّن ملامح الوقائع البديلة المرتَبِكة في السياسة، فحيدر العبادي يشدد على أن الانتصار على الإرهاب كان بدماء العراقيين وحدهم؛ لإرسال صورة مكبّرة له كزعيم عسكري وقائد سياسي، لكن لمن يرسلها ونحن جميعا نعلم أنها لم تصل إلى المرسلة إليهم؟ إذا افترضنا أنه يوجهها إلى الشعب لكن في المضمون يرسلها إلى نظام الولي الفقيه الإيراني رغم أن تصميمها الفني يبدو إلى الحليف الأميركي.
رئيس الوزراء لم يطلب من أميركا أن تضحي بدم مقاتليها، فالدم متوفر في مخازن العراق وجريمة الموصل تدلل على هزال بالغ في الإذعان لنشوة الرغبة الأميركية واستراتيجيتها رغم تكديس الولاء لوصايا المرشد تحت طاقية الإخفاء، لكن إلى متى والانتخابات مقبلة والشركاء من حزبه وكتلته الطائفية سافري الولاء للولي الفقيه؟
إصرار التحالف الدولي على عدم تغيير أسلوبه في خوض معركة الموصل يعني تمدده كإجراء للحرب العالمية على الإرهاب. الحقيقة في الإحصاءات، فخسائرنا بالمجمل، دون محاصصة دم، مقابل رقم صادم بتضحيات التحالف عموما وليس القوات العسكرية فقط، المعلومات تؤكد سقوط قتيل واحد بحادث عرضي.
القوات الأميركية الخاصة تقوم بإنزال في محيط سد الفرات وتسيطر على المطار في الطبقة بـ100 مقاتل، وتبدأ بإصلاح السد وترميم المطار ليكون قاعدة عسكرية لعملياتها ودون أن تضحي بأحد مقاتليها. الأمر يحدث على أطراف زمان ومكان معركة تحرير الرقة.
هذا يبرر لماذا لم تُقْدم القوات المحمولة جوا على أداء مهماتها في إنجاز معركة الموصل القديمة، لأنها تعتبرها محسومة بالقياسات القتالية العراقية ولا تريد أن تخسر جنودها بما يتسبب بمواقف مناهضة في الداخل الأميركي، أي أنها حرب نظيفة وهو مصطلح ينسجم مع رؤيتها، لكن ماذا عن دمنا؟
الصعود في المركب الانتخابي القادم في العراق محسوم من جهة، على حق الدم المسفوح من الحشد الشعبي، وهي أصوات تعرف طريقها لقادة المشروع الإيراني في العراق، أما بالنسبة إلى حيدر العبادي، مع أنه جزء منهم إلا أن الأمر مختلف لأنه يحمل عصا التوازن، وهي عصا من صناعة مدرسة التقية بدرسها الصعب الذي يتلقى فيه الطالب الصفعات أسوة بالمعلم، فبين حكم العـراق والإرادة الأميركية واستراتيجية الرئيس دونالد ترامب بعد استرخاء وكسل فترة الرئيس باراك أوباما وإرضاء المرجعية الطائفية السياسية في إيران، يبدو العبادي في حال لا يحسد عليه بين شد وجذب سيستقر أخيرا على التفريط بالدم العراقي حتى خارج الحدود إذا ما تم تكليفه بذلك، وإبقاء الحشد الشعبي تحت كل المبررات والصيغ، بدمجه في الجيش أو تفكيك بعض مفرداته بالإقناع بخطورة المرحلة أو الاسترشاد برأي المـرجعية الدينية وهو حائط صد لن يتخلى عنه أو إيجاد معادلات قوى والانحياز في مثل هذه الحالات يتجه دائما لحجم المقلدين، أي التكتل الطائفي العددي الذي يشكل عنصرا حاسما في الانتخابات.
الحرب على الإرهاب في العالم تتركز في العراق وسوريا، ومن لا يجيد القراءة عليه التعلم سريعا. الدرس الأول هو الحرب على الإرهاب والثاني أن الإرهاب لا يعني داعش وأخواته إنما المشروع الإيراني في المنطقة، والثالث تأجيل الصراعات الداخلية إلى ما بعد إنجاز المهمة، والرابع لا مكان في المستقبل لمن لا يتفهم الدروس الثلاثة ولا يلتزم بآلية التوجه الدولي.
الفرصة بين الدروس هي لمراجعة الذات والوقوف على واقع الإرهاب وتمدده في العالم وتأثيره في السياسة الدولية، واتخاذ القرار بالتأني والصبر والثبات على مقارعة من باعوا شعوبهم وأمتهم وذلك لن يكون إلا باستيعاب إعادة الأوطان إلى أهلها وإخراج الدخلاء وميليشياتهم وتحطيم أخطر حلقة في سلسلة جرائم الإرهاب الإيراني لمحاولته المستمرة إحداث التغيير الديموغرافي وتحويل المنطقة إلى كيانات مذهبية غير مختلطة وغير متعايشة لإنجاز مهمته وأهدافه المعلنة.
مع احتلال داعش للموصل وبعد أشهر تم اختطاف الأتراك العاملين في إحدى الشركات في العاصمة العراقية بغداد ومطالبة الخاطفين بتطبيق ما يعرف باتفاق البلدات الأربع في سوريا، أي مبادلة أهالي الزبداني ومضايا بسكان أهالي الفوعة والكفريا وهو تبادل طائفي؛ تحقق الاتفاق الثلاثاء في حالة أكدنا مرارا أنها نموذج مصغر لما يراد للمنطقة. ذهول مريع يسود السكان وسط صمت دولي.
الزبداني ترحل أو تموت من الجوع، الموصل التي عرفناها ترحل بالموت والجوع والتشرد؛ التهجير والإبادة، قرارات عميقة ترتبط بإطلاق نار عشوائي غير مقيد في كل الاتجـاهات، لكن علينا الآن في حاضرنا تقنين دمنا وقراءة ما لا يكتب وسماع ما لا يقال.
العرب حامد الكيلاني