الصور المسربة لآلاف الجثث من المعتقلين الذين قتلوا في سجون فروع التحقيق تكفي لتقديم نظام بشارالأسد للمحكمة الجنائية، هذا ماصرح به الحقوقيون الدوليون الذين عملوا سابقا على قضايا إبادات جماعية حول العالم بعدما استعرضوا مجموعة من الصور التي قام المنشق عن صفوف قوات الأسد «سيزر» بتسريبها مطلع العام الفائت، فقد تم نشر عدد بسيط من الصور عبر بعض وكالات الأنباء، في الوقت الذي تم فيه التحفظ على الآلاف يتراوح عددها ما بين 55000 صورة إلى 11000 صورة لمعتقلين قضوا تحت التعذيب في أقبية فروع النظام الأمنية، ومؤخراً تم نشر أعداد كبيرة من هذه الصور على عدد من المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي.
وما إن بدأت الصور بالتدفق حتى باشر النشطاء وصفحات التواصل الاجتماعي إلى تناقل الصور المرعبة ومشاركتها في محاولة منهم للتعرف على أصحابها الذين فقدتهم أسرهم منذ أشهر طويلة أو سنوات دون معرفة أية أخبار عنهم، وفي الوقت نفسه شكل عدد من المجالس المحلية لجاناً خاصة لاستعراض الصور ومحاولة التعرف على أصحابها، بعد أن لحق بهم أذى كبير غير معالم وجوههم وأجسادهم، فيما دعا عدد من الناشطين إلى عدم تداول الصور كالناشطة «إيريس محمد» التي طالبت على صفحتها الشخصية بعدم نشر الصور؛ لأن النظام تعمد إلى تسريب الصور إمعاناً في قهر السوريين وانتقاماً من صبرهم، والتلذذ بتعذيب قلوب أمهاتهم، وحرق قلوب آبائهم، فهو «أي النظام» على دراية كاملة بأنه ولو أحرق عشرين مليون سوري فلن يُحاسب، ودعت «إيريس» إلى اقتصار استخدام الصور للتوثيق فقط، لكن على الجانب الآخر هنالك الآلاف من العائلات والثكالى والأمهات ممن احترقت قلوبهن، واشتعلت أرواحهن شوقاً لخبر يأتي عن المفقودين فلا بد على الأقل من محاولة للتعرف على من يمكن التعرف عليه في ألبومات الصور شديدة القسوة والتأثير.
تقضي «إيمان» من مدينة داريا أيامها في انتظار أخيها المعتقل منذ سنتين، وتنشر له كل يوم على صفحتها الشخصية على الفيسبوك أشواقها ولوعتها، كما تتغنى بذكرياتهما معاً، وكتبت منذ أسبوع «أخي حبيبي أنا واثقة إني رح شوفك عن قريب، يلا تعال شوف ابني يلي عم يستناك»، إلا أنها فوجئت وأثناء تصفحها للصور أن أخاها كان من بين هؤلاء الشهداء، كيف تكذب عيونها، وصور الموت لا تكذب على أحد!؟ يأتي صديق لها ولأخيها يعلق على إحدى المنشورات القديمة لها ويقول: كيف حال حسام وأين هو الآن، فتجيبه في تعليقها: حسام كان معتقلاً، لكنه الآن شهيد. يصف الصحافي «مؤيد اسكيف» حالته أثناء بحثه عن وجوه ستة من أفراد عائلته ممن قضوا تحت التعذيب في سجون النظام فيقول: بعدما عثرت على صورة أحد اقربائي وقد شوهها وغير معالمها هول ما تعرض له من ضرب وتعذيب وتنكيل، لم أتحمل ما رأيته، وكاد ذلك يودي بحياتي، فتم نقلي إلى المشفى وتعرضت لاختلاجات شديدة، وبقيت لفترة في العناية المركزة، وفترة أخرى في المصحات النفسية.
كان لدمشق وريفها النصيب الأكبر من الصور المسربة ففي داريا المحاصرة وحدها تم التعرف على أكثر من 37 صورة لأبناء المدينة، وهم جثث هامدة، عليها آثار تعذيب فظيعة، وكذلك في الهامة، والزبداني، وقطنا، ودمر، وكناكر، ومعضمية الشام، ومناطق جنوب دمشق وغيرها، فأقيمت العشرات من صلوات الغائب على أرواح الشهداء، ونظمت حملة على صفحات التواصل الاجتماعي بعنوان هاشتاغ «مذبحة المعتقلين»، وتحولت أغلب صفحات التواصل الاجتماعي إلى جدران يتم تعليق النعوات والصور عليها.
تروي «تسنيم» ماحدث لها عندما رأت أحد معلميها الذين كانت له يد بيضاء عليها وعلى أبناء مدينتها «داريا» كيف رأته مشوه الجثة، وتقول: «كان من أفاضل الناس، وكان يدور على الفقراء والمحتاجين، كان عندي خيط أمل بأن أراه من جديد، لكني لم أتخيل أن أراه جثة هامدة فقدت روحها جراء التعذيب».
كما افتتحت عدد من الصفحات التي اختصت بنشر جديد هذه الصور على شكل ألبومات مصغرة ومقاطع فيديو من عشرات الأجزاء ليتم وضعها بين يدي من لهم عزيز مفقود، أو معتقل مجهول المصير.
يقول «أحمد نادر»: على الرغم من استلام شهادة وفاة خالي وابنه من فرع الشرطة العسكرية، إلا أنني لا أثق مطلقاً بما يقدمه هذا النظام المجرم من معلومات وشهادات وفاة، ومنذ اليوم الأول لنشر الصور أصبحت على موعد يومي مع جلسات مطولة للبحث والتحري بعمق بتفاصيل كل صورة، علي أستطيع العثور بين مجموع الصور على صورة أحد من أصدقائي، أوأقربائي المفقودين، ويصف «نادر» هذه الحالة بالمأساة الحقيقية والألم العميق الذي يخترق باطن الدماغ من هول المشاهد، وحجم الضرر الذي حل بالجثث.
وفي مبنى الأمم المتحدة في نيويورك نظم معرض لعدد من هذه الصور، بحضور عدد كبير من الدبلوماسيين وممثلي الدول وحقوق الإنسان، لكن اقتصر المعرض على المشاهدة، وباتت صور القتلى تعرض، والجميع يعرف من القاتل إلا أنهم متعامين عن نظام اعتقل منذ اندلاع الثورة ما يزيد عن 300 ألف إنسان، غالبيتهم العظمى مجهولو المصير وما هذه الصور على فظاعتها سوى جزء بسيط مما تخفيه أقبية معتقلات النظام ومشافيه العسكرية التي تحولت إلى مستودعات كبيرة للجثث، كما اعترف مدير مكتب بشار الأسد أثناء تفاوضه مؤخراً مع كتائب في الغوطة لتبادل الأسرى أنه يتم تصفية الأسرى حتى لا يتحول ملفهم إلى ورقة ضغط على النظام، ملمحاً إلى عدم اهتمام النظام بفتح أبواب التفاوض والتبادل على أسرى قوات النظام المتواجدين عند الثوار مقابل إطلاق سراح المعتقلين.
أحمد الدمشقي – القدس العربي