منذ ست سنوات تقريباً، والأزمة السورية تواجهنا كل يوم بصدمةٍ، وتُسقط من حولنا أقنعةً، وتصفعنا في وجوهنا بقوة، حتى أيقظتنا على عالمٍ لا نعرفه، وهو بالتأكيد غير الذي كنا نظن أننا نعيش فيه. اعتقدنا وهلةً أننا بتنا نعيش في عالمٍ “متحضّر”، لا يمكن أن يسمح لديكتاتور، أي ديكتاتور، بتكرار مستويات عنفٍ أقلّ كثيراً مما شهدته حماة قبل ثلاثة عقود. في ذلك الوقت، تمت المذبحة بصمت، فلا صور ولا أخبار ولا صرخات للضحايا، تستفز العالم “المتحضّر” لنجدتها.
ثم إن المذبحة تمت في ظروف الحرب الباردة وثنائية القطبية، حيث لا حديث عن تبعاتٍ سياسيةٍ، ولا بحث في مسؤوليةٍ قانونيةٍ في عالم جمّدت مشاعره الواقعية، بنسختها الكيسنجرية. في ذلك الوقت أيضاً، لم تكن الإنسانية قد اخترعت بعد شيئاً اسمه محكمة الجنايات الدولية (بدأت عملها في أول يوليو/ تموز 2002)، لردع مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية، كما أن الأمم المتحدة لم تكن قد أقرّت بعد مبدأ المسؤولية في الحماية (R2P)، حيث للمجتمع الدولي الحق في التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، في حال ارتكبت حكومتها جرائم تطهير أو إبادة بحق مواطنيها. كانت القناعة، كل القناعة، أنّ ما حصل في سبرينيتسا في البوسنة، وحتى في الشيشان وميدان تيان آن من في بكين أصبح وراءنا. لم لا ونحن نعيش فضائل القرن الحادي والعشرين، حيث تنتشر تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، وتتحول قيم الحرية إلى قيم عالمية، وترتقي الإنسانية.
على الأرض، وفي الواقع، كانت الأمور جداً مختلقة، اذ تجاوزنا في سنة الأزمة الأولى ما جرى في سبرينيتسا، وباتت مذابح راوندا وبورندي اليوم وراءنا، والأرجح أننا في الطريق إلى استعادة تجربة “الخمير الحمر” في كمبوديا، حيث قضى نصف السكان (4 ملايين نسمة) على يد ديكتاتورية بول بوت العسكرية بين 1976-1979، والعالم يراقب، وهو لا يلوي على شيء.
لم تقتصر الصدمة على اللامبالاة التي أبدتها حكومات العالم “المتحضر” تجاه المأساة السورية، بل تجاوزها الأمر إلى الشعوب والرأي العام الغربي الذي صدمنا، هو الآخر، بمقدار لا إنسانيته ولا مبالاته، فسورية ليست ضحية الإمبريالية الأميركية، حتى يخرج بمظاهرات مليونية للتضامن مع شعبها. هنا، يبدو بجلاء أن مشكلة الرأي العام الغربي اليساري التقدّمي لم تكن يوماً مع فعل القتل، بل مع هوية القاتل، فتجده يلوذ بالصمت، إذا كان القاتل من الجنس “الممانع” الروسي أو السوري أو الايراني، أما إذا كان القاتل “إمبريالياً” فالويل له والثبور وما يليه من عظائم الأمور. ولو أن تحرّكاً أميركياً أراد اليوم، مثلاً، استهداف “الممانعين”، لوجدت شوارع لندن وبرلين وغيرها من عواصم الغرب تنتفض، كما فعلت يوم غزو العراق، لمقاومة العدوان الأميركي على سورية.
صُدمنا أيضاً بمواقف نخبٍ عربيةٍ طالما ادّعت النضال في سبيل الحرية، وطالبت الشعوب بالبذل في سبيلها، فلما تحرّكت هذه، وصفت بالغوغائية والتطرّف والإرهاب والتكفير والسقوط ضحية مؤامرة خارجية. صُدمنا بموقف حزب الله وطائفية مشروعه المقاوم، وبمخزون العنف والحقد الكامن فيه، كما أسأنا تقدير حجم المشروع الإيراني، وأبعاده التدميرية وخططه لتفكيك الدولة العربية من دواخلها، وحكمها بمليشيات طائفية، مرجعياتها ايرانية.
أسأنا تقدير حجم التغيير الذي حصل في تفكير النخب الأميركية تجاه المنطقة العربية، بعد أحداث “11سبتمبر” وغزو العراق. كما أسأنا تقدير مدى التزام روسيا بمشروع الأقليات في المشرق العربي، ومدى خوفها مع الصين من ثورات الربيع العربي، وخطورة امتدادها اليها، وإصرار الاثنتين على إحداث تغيير عميق في بنية النظام الدولي، بالاستفادة من حالة الانكفاء الأميركي. أسأنا بالتأكيد تقدير مدى التزام العالم “الحر” بقيم الحرية ونشر الديمقراطية، عندما يصل الأمر إلى العرب والمسلمين. فوجئنا بعدم إدراك الدول العربية (الخليجية خاصة) أبعاد الصراع في سورية، وعدم تقديرها أن مصيرها، لا بل وجودها، معلقٌ بنتيجته، فظهرت بمظهر الداعم أو المساند للسوريين في خوض معركتهم، بدلاً من أن تخوض هي المعركة بهم ومعهم.
بالنتيجة، أسأنا الحسابات، تلقينا صدماتٌ عديدة، وفاتتنا أكثر التقديرات، ووصلنا إلى الحال التي وصلنا إليها. الآن، ليس أمامنا وقد وعينا ذلك كله إلا أن ننظر إلى الأمام، ونواصل المسير، وكلنا أملٌ في ألا نستمر في إساءة التقدير.
العربي الجديد – مروان قبلان