قالت الصحيفة الأمريكية “نيويورك ريفيو ديلي” في مقال إن محاولة الانقلاب الفاشلة، التي حدثت في تركيا ليلة 15 تموز/ يوليو، عززت صلة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنصاره، وجعلت الشعب يختار أردوغان مرة أخرى.
أردوغان في حضن الشعب
وتابع كاتب المقال كريستوفر دي بيلاغ أن أردوغان سعى ليلة الانقلاب إلى إيجاد ملاذ مريح في “حضن شعبه الغاضب والمبتهج في الوقت نفسه”. مضيفا أن البلاد بأسرها تعيش في حالة من الانتعاش منذ ثلاثة أسابيع، و”أنا شخصيا لم أر طوال عشرين عاماً من العمل في متابعة الشأن السياسي التركي مثل هذا التزاوج ما بين القومية والتدين”.
وأشارت الصحيفة إلى مظاهرات الشعب التركي في الساحات بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، وآلاف الأتراك الذين “يلوحون بالأعلام التركية ويتعاهدون فيما بينهم على الحيلولة دون تكرار مثل هذه المحاولات الغادرة، كما أشارت إلى تمجيد الصحف التركية أبطال “هذه المقاومة” الذين تصدوا للانقلاب في الـ15 من تموز/ يوليو، وبينهم “الشهداء الذين ارتقوا” في أنقرة واسطنبول بعدما سحقتهم الدبابات، والمزارعون الذين أشعلوا النيران في حقول القمح التابعة لهم لحجب الرؤية عن طائرات الانقلابيين.
واستطردت الصحيفة أن من بينه هؤلاء “الأبطال” الذين مجدتهم الصحافة التركية، أردوغان “الذي أفلت من الموت أو الأسر في الدقائق الأخيرة وتمكن من توجيه نداء إلى الشعب عبر هاتفه الذكي”، ما جعل الملايين يخرجون إلى الشوارع، وقالت الصحيفة إن أردوغان تحول إلى رمز يجسد مشاعر الازدراء لدى عامة الناس تجاه الانقلابيين، لا منافس له في البطولة، وباتت ملامح وجهه بما تعبر عنه من غضب واستعلاء محفورة في الذهنية الوطنية في سابقة هي الأولى من نوعها.
الزعماء الغربيون والانقلاب
وقال دي بيلاغ في المقال الذي حمل عنوان “تركيا تختار ـأردوغان” إن الزعماء الغربيين لم يدركوا “السمات الملحمية” لليلة الانقلاب الفاشل، ولم ينتبهوا إلى أن فشل الانقلاب جنب المنطقة كارثة، وأضاف أن “هؤلاء الزعماء تركزت ردود أفعالهم ليس على إبداء التعاطف مع الحكومة التي وقع حصارها في تلك الليلة وإنما مع الأهداف المحتملة لإجراءاتها الانتقامية”.
وأشارت الصحيفة إلى تصريحات وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الذي حث الأتراك على “الالتزام بأعلى مستويات الاحترام لسيادة القانون” أثناء التعامل مع المتورطين في الانقلاب الفاشل. كما أشارت إلى تصريحات مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فريدريكا موغريني التي دعت تركيا لاحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان. وقال كاتب المقال إن مثل هذه التصريحات أثرت بشكل سلبي على كثير من الأتراك، إذ “اعتبرت إهانات متعمدة لأمة أظهرت من البطولة ما لا يقل عن تلك التي أظهرها جنود العثمانيين الذين أحبطوا محاولة الغزو البريطانية على شواطئ غاليبولي في عام 1915”.
الانقلاب الفاشل ألغى الخلافات
وقالت الصحيفة إن كلا من تشجيع الحكومة التركية ومشاعر النشوة الوطنية ساهم في إيجاد حالة من الوحدة والتضامن، إذ توقفت حتى إشعار آخر كل مظاهر التناحر بين حزب العدالة والتنمية وأحزاب المعارضة الرئيسية: “حزب الشعب الجمهوري الذي يقف على يسار الوسط وحزب الفعل القومي ذي الاتجاه اليميني”.
وأشار الكاتب إلى مسارعة أردوغان “المعروف بحساسيته المفرطة، إلى سحب الآلاف من القضايا المرفوعة في المحاكم باسمه شخصيا ضد أشخاص يزعم أنهم شهروا به عبر “تويتر” أو من خلال وسائل الإعلام أو من خلال الكلام اللفظي”. وتابع أن السلطات جعلت ركوب الحافلات وقطارات الميترو في كل من أنقرة واسطنبول بالمجان (لتحفيز الناس وتشجيعهم على الخروج والمشاركة في تظاهرات “السهر على حماية الديمقراطية”)، كما يجري الآن تغيير أسماء الطرق والشوارع “لتخليد ذكرى شهداء” الخامس عشر من تموز/ يوليو.
وتابعت الصحيفة أنه “لا يمكن فهم شدة ردة الفعل التركية على الانقلاب دونما إدراك ما للانقلابات ذاتها من وقع شديد المرارة في نفوس الناس في تركيا”، واصفة ما وقع ليلة 15 تموز/ يوليو بـ”محاولة بشعة من قبل طغمة من كبار الجنرالات لإخضاع البلاد للحكم العسكري الدكتاتوري. وحسبما يتوفر لنا من معلومات، فقد جرت هذه المحاولة باسم داعية مسلم يتخذ من الولايات المتحدة مقراً له اسمه فتح الله غولن، الذي يتزعم شبكة من المدارس المنتشرة حول العالم والذي تحظى حركته بأتباع كثيرين متغلغلين داخل الجهاز الإداري التركي. (هو شخصياً ينفي التهمة الموجهة إليه إلا أن تركيا ما فتئت تطالب بتسليمه لها)”.
وأوضح المقال أن تركيا سبق لها أن جربت الانقلابات العسكرية ثلاث مرات منذ عام 1960، “ناهيك عن المحاولات العديدة التي لم يكتب لها النجاح”. وتابع: “قياسا على ما جرى في المرات الثلاث التي استولى فيها العسكر على السلطة فلو نجحت المحاولة الانقلابية هذه المرة لشهدت تركيا إعدامات وتعذيبا وحظرا لحرية التعبير والنشر. ونظرا لما يعانيه الجيش ذاته من انقسام، كانت البلاد ستشهد في الأغلب اندلاع حرب أهلية طاحنة. وليس عجيبا إذاك أن تُعتبر التحذيرات الأجنبية المحمومة التي صدرت في أجواء ما بعد الانقلاب في أحسن الأحوال قاسية وفي أسوأ الأحوال حصرما”.
من يقف وراء محاولة الانقلاب؟
وبين دي بيلاغ في مقاله أنه ينتشر بين الأتراك على نطاق واسع انطباع بأن الغرب يقف وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة، أو أنه على الأقل كان لديه علم مسبق بها. موضحا أن غولن يعيش في الولايات المتحدة منذ ما يزيد عن عقد ونصف، ويفترض أن السلطات الأمريكية لديها فكرة جيدة عما يجول في خاطره وما يخطط له وتعرف من يزوره ويتردد عليه. ونقل عن مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية جيمز كلابر، قوله إن بعض الجنرالات الأتراك الذين اعتقلوا للاشتباه في دورهم في الانقلاب كانوا حلفاء مهمين جدا في الحرب ضد تنظيم الدولة وسوف يفتقدون.
وتابع نقلا عن كلابر: “سوف يؤدي ذلك إلى تراجع التعاون بيننا وبين الأتراك”. مشيرا إلى أن من بين الضباط المعتقلين آمر قاعدة إنجيرليك التركية، وهي القاعدة الجوية التي تنطلق منها الطائرات الأمريكية لقصف تنظيم الدولة في سوريا. موضحا أن انتقاد أردوغان بشدة للأمريكيين يأتي في هذا السياق، إذ اعتبر الرئيس التركي أنهم “انحازوا إلى جانب من تآمروا ونفذوا المحاولة الانقلابية الفاشلة”.
“لطالما اعتقد مؤيدو الرئيس (أردوغان) بأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تريد النيل من أردوغان لأنه زعيم قوي تحولت تركيا في عهده إلى قوة إقليمية”، يقول الكاتب ويضيف: “وحينما تسمع الناس العاديين يتحدثون عن “عقل مدبر” خفي وأجنبي يقف وراء الانقلاب وعندما تقرأ أعمدة الصحافة التي تتحدث عن مخطط خارجي يستهدف جر البلاد إلى حرب أهلية فقد لا يخطر ببالك أبداً أن الانقلاب كان في الواقع من تنفيذ أتراك وأنه أجهض بأيدي أتراك، وأنه إنما كان جزءاً من صراع أشمل على السلطة والنفوذ بين منظمتين تركيتين هما حزب العدالة والتنمية وجماعة الخدمة التابعة لغولن”.
ورأى الكاتب أن لمحاولة الانقلابية الفاشلة عززت صلة أردوغان بأنصاره، و”قد تجلى ذلك بوضوح يوم التاسع والعشرين من يوليو (تموز) عندما قاموا (الرئيس وأنصاره)، وترافقهم عائلات شهداء الخامس عشر من يوليو (تموز)، بمبايعة بعضهم البعض داخل قاعة تشبه الكهف ملحقة بقصر الرئاسة الضخم الذي شيده مؤخراً في أنقرة”.
“الشوفينية الإسلامية”
وتابعت الصحيفة أن “خطاب أردوغان في تلك الليلة تضمن تعابير فيها مزيج من الشوفينية الإسلامية، وحالة من الاستفزاز والعدوانية وإحساس بالخوف من الأجانب. أعلن ليلتها عن قيام “حركة مستقلة” حديثة، وصب جام غضبه – كما هو معتاد – على الغرب وأعلن أنه عبد الله الذي ينتظر الشهادة في سبيل الله. ثم تساءل ما إذا كان من الممكن أن يكون المتآمرون مسلمين وأتراكا؟ صاح الجمهور مجيباً إياه على سؤاله: “لا!” فما كان من أردوغان إلا أن أقرهم على ذلك قائلاً: “لا شيء يربط هؤلاء بهذه الأمة””.
وانتقد الكاتب الاعتقالات الكبيرة التي طالت المتورطين في محاولة الانقلاب الفاشلة، واصفا إياها بـ”عمليات التطهير”، مضيفا أنها تمت بشكل غير مشرف. واستدرك أن الكثير من الأتراك لا يعتبرون “عمليات التطهير” واسعة النطاق، بل يرون أنها جاءت متأخرة جدا. وأشار إلى أن إردوغان كان قد أقر بأنه كان مخطئا حين أحسن الظن بالغولنيين وتحالف معهم ضد المؤسسة العلمانية التي كانت ذات يوم تهيمن على مقاليد الأمور في البلاد – و”هي الاستراتيجية التي استمرت إلى أن وقع الخلاف بينه وبين الغولنيين في عام 2012، ففي ظل ذلك التحالف شهدت البلاد طرد العلمانيين من الحياة العامة، وقد انتهى المطاف بالإسلاميين الآن إلى أن يفترس بعضهم بعضا”.
ووصفت الصحيفة الاعتقالات التي جرت داخل الجيش التري بـ”نخر” ثاني أكبر جيش في حلف الناتو، مضيفة أن الحكومة تمضي في “تطهير” النقابات المهنية وغرف التجارة. وأشارت إلى إغلاق السلطات التركية العشرات من المدارس والجامعات التي تنتسب إلى جماعة غولن، و”لقد أخبرني صديق يعمل في جهاز الإدارة الحكومي أن 29 شخصا يعملون في دائرته الحكومية قد أوقفوا عن العمل. وقد تتطاير رؤوس ما لا يقل عن 500 شخص يعملون في وزارة الخارجية”. وبينما “عبر بعض اليساريين والليبراليين عن تخوفهم من أن إجراءات الحكومة ستطال لا مفر العديد من الأبرياء، إلا أن ثمة توافقاً عاماً على أنه لابد للحكومة في الظروف الاستثنائية من إعادة فرض سلطتها”.
قضية حقوق الإنسان
وأوضح الكاتب أنه في مثل هذه الأجواء تنسى قضية حقوق الإنسان. و”قد لا يساعد في ذلك أن معظم المدافعين عن حقوق الإنسان في تركيا هم من العرقية الكردية، وهؤلاء يذكرون جيداً تورط الضباط والقضاة الغولنيين في بعض أسوأ الإجراءات القمعية التي استهدفت الأكراد بالذات”. ونقل ذلك عن ضابط جيش سابق، كان هو نفسه ضحية من ضحايا حملات التفتيش الغولينية، قوله إن “الجميع يكرهون الغولنيين”.
وتابع: “يبدو أنه لا مفر من وقوع تجاوزات ومظالم سواء كان ضحاياها من الغولنيين الذين لم يشاركوا في الانقلاب أو من الأبرياء الذين قد يدانون لأسباب شخصية بحتة، ناهيك عن الصحفيين السبعة عشر الذين وُجهت لهم تهم بالانتماء إلى “مجموعة غولن الإرهابية”. بعض هذه المظالم قد لا يتسنى الرجوع عنها وإصلاح الخطأ الذي وقع فيها، وخاصة إذا ما صوت البرلمان – مثلما اقترح أردوغان – على إعادة العمل بعقوبة حكم الإعدام”.
ونقلت الصحيفة عن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جنكر قوله ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة إن تركيا “في وضعها الحالي …. قد لا تكون مؤهلة لأن تصبح عضوا في أي وقت قريب”. واستدركت الصحيفة أن السلطات التركية قد يكون لديها الشعور نفسه، “فقبل عشرة أعوام فقط كان ثمة دعم كاسح بين الأتراك لفكرة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. لكن، لم يعد ذلك هو شعورهم اليوم. بالنسبة لمعظم الأتراك، الذين يئسوا قبل زمن طويل من أي أمل أو طموح في الانضمام إلى هذا النادي الذي يعاني نفسه من أزمات حادة، تتجاوز التعليقات الأوروبية على حالة الطوارئ التي أعلن عنها في تركيا مجرد الإزعاج العابر”.
خلصت الصحيفة إلى أن المحاولة الانقلابية الفاشلة قد تؤذن بدخول تركيا “طورا جديدا تصبح فيه أكثر ميلاً نحو التأثرية والسلطوية، إلا أن الشعب يبدو، حتى هذه اللحظة، مستعداً لقبول النمط الديمقراطي الأردوغاني إذا ما كان قادراً على حمايتهم من الحكم العسكري بقيادة الغولنيين”.
عربي 21