«شيءٌ معقّدٌ، سوريّا!»… لفرط ما تُسمع هذه العبارة في فرنسا ـ على ما يظهر ـ صَمّم نفرٌ من ذوات المعرفة بسوريا من فرنسيّات وسوريّات مقيمات في فرنسا أن يسهّلن فهم النزاع الجاري في سوريا على من يرغب في هذا الفهم مهما تكن مَلَكةُ فهمه ضعيفة. عليه اعتمدت صاحبات هذا العمل عنواناً لعملهن «شرحُ النزاع السوري للغشيم»….
وهذه حالةٌ من حالات يتبيّن فيها أن إفهام الغشيم يقتضي من جانب من يحاوله فهماً ومَلَكة فهمٍ رفيعين.
تتوزّع المؤلّفات ما بين صحافيّات وجامعيّات يشتركن في همّ المتابعة الدائبة لتطوّر الأحداث في سوريّا ومحيطها. وهنّ قد أنشأن لعملهن هذا موقعاً خاصّاً على الشبكة مبتغيات التمكّن من تحديثه كلّما لزم الأمر. وقد رتّبنه كأحسن ما يكون الترتيب في مقدّمة قصيرة وخمسة فصول وخاتمة وأوجزنَ فيه ما أمكن الإيجاز. ولم يخفين أن وصول ذيول العنف الجاري في سوريّا إلى فرنسا هو ما وَسَم بميسم الإلحاح حاجةَ الفرنسيين إلى صورة واضحة لما هو حاصلٌ في تلك البلاد. وهنّ صرّحن بأنهن غير محايدات بل هنّ منحازاتٌ إلى حقّ السوريين في الديمقراطية ولكنهن، مع ذلك، يُرِدْن تقديم الوقائع بموضوعية ويجهدن للنأي بما شئنَه عرضاً بسيطاً بمعنى السهولة عن التبسيط بمعنى الابتسار. ويقع القارئ مراراً في العرض كلّه على ما يدعم هذه الدعوى ويطمئنه إلى شمول الإلمام بالمواقف والوقائع وإلى صدقيّة المصادر المختارة.
بعد تعريف موجز جدّاً بالبلاد وبالمرحلة المعاصرة من تاريخها، يخلص الفصل الأوّل إلى تسجيل وجاهة الدواعي التي دعت السوريين إلى التظاهر في الشوارع، في «حمّى الربيع العربي»، وينوّه بالسلمية التي أقام عليها المتظاهرون أشهراً ويذكر مثابرة النظام، في هذه الأثناء، على مواجهة التظاهرات بالرصاص وبالاعتقال الواسع النطاق والتعذيب، وهذان لم يستثنيا الأطفال بل بدآ بهم. هذا كلّه يشهد به إحصاءُ الأمم المتحدة 5000 قتيل في سوريا مع انتهاء العام 2011.
ثم كان أن تسلّحت الانتفاضة. وهذا خيار لا يزال الخلاف قائماً في صواب الإقدام عليه، ولا يستثنى من الخلاف المعارضون، وإن يكن داعي الدفاع عن المتظاهرين وعن الأحياء والقرى الثائرة واضحاً في منطلقه. في 31 تمّوز/يوليو 2011، أعلنت أوّل دفعة من الضبّاط انشقاقها ولم يكن في حوزة هذا «الجيش السوري الحرّ» سوى السلاح الخفيف ولكن النظام ردّ على ظهوره باتّخاذ المدفع سلاحاً للقمع خَلَفاً للبندقية.
يفضي الجدال في صواب الخيار المسلّح إلى آخَرَ في طبيعة الحوادث الجارية بعده: هل هي «ثورة» (باعتبار توجّهها إلى إنهاء دكتاتورية طال العهد بها أزْيَدَ من 40 سنة؟) أم هي قد انقلبت إلى «انتفاضةٌ مسلّحة»؟ أم ان المواجهة بين قوى من أهل البلاد جعلت منها «حرباً أهلية»؟ أم ان عدم التناظر بين قوى النظام المسلّحة، بطيّاراته ودبّاباته ومدافعه، والقوى الثائرة عليه، بتسليحها المحدود، قد انتهى إلى جعل هذا النزاع «حرباً على المدنيين»؟
وعلى نحوِ ما يخيِّر العرضُ الذي نحن بصدده مستشيرَه بين سائر التسميات المتباينة للنزاع الجاري، وهي تحدّد له طبائع مختلفة، لا ينكِر البعدَ الطائفي لهذا النزاع. لا ينكره ولكن ينوّه بالحضور المفرط لطائفة الرئيس العلوية، والعلويون قرابة 10 ٪ من سكّان البلاد، في الجيش وفي شبكة الأجهزة الأمنية: أي في الآلة المستحوذة على لُباب السلطة.
بعد ذلك يؤرّخ العرض لفقدان النظام سيطرته على مناطق متزايدة الاتساع من البلاد وعلى مدن وأقسام من مدن. ويذكر إنشاءَ «المجالس» المكلّفة إدارة الشؤون اليومية للجهات المحرّرة. ويذكر وصولَ التمرّد إلى الحدود التركية وما أتاحه ذلك من تسهيل لإمداد الثوّار ولكن أيضاً لبدء وصول المقاتلين غير السوريين إلى البلاد. ويذكر كذلك قصف الطيران يوميّاً للمناطق الخارجة عليه وما تسبّب به ذلك من قتل ودمار ومن نزوح للسكّان بعشرات الألوف.
تغيّرت الحال كثيراً عمّا كانت عليه في سنة 2011. تراجعت اللغة الديمقراطية في معظم صفوف الفصائل المقاتلة أو انقلبت إلى نقيضها. وبقيت هيئات المجتمع المدني فاعلةً ولكنّ كثيرين من عناصرها استهدفهم القمع الضاري وأبعدهم أو قضى عليهم.
وفي ميدان القتال، يحصي العرض قوىً أربعاً تتواجه في الميدان: أولاها القوى النظامية وأحلافها من المليشيات غير السورية وفي يدها ما لا يتعدّى ثلث مساحة البلاد ولكن هذا الثلث يشتمل على معظم ما يسمّى «سوريا المفيدة». وهي تعوّل على الطيران وعلى الحوّامات وبراميلها المتفجّرة وتستهدف، بخلاف مزاعمها الدعاوية، مناطقَ المعارضة السورية المسلّحة أكثر بكثير ممّا تستهدف مواقع داعش. ثانيتها فصائل المعارضة المسلّحة وقد تراجع في صفوفها حضور الجيش الحرّ وقوي نفوذُ المجموعات ذات الصبغة الإسلامية بإملاءٍ من مصادر الدعم الخليجي المنشأ. تتركّز سيطرة هذه الفصائل في شمال البلاد القريب من الحدود التركية بما في ذلك ما يزيد عن نصف مدينة حلب.
إلى ذلك، تهيمن الفصائل نفسها على الأحزمة الريفية لمدن رئيسية أخرى بما في ذلك غوطة دمشق. هذا كلّه يتعرّض لقصف أخذ يشترك فيه الطيران الروسي ابتداء من خريف 2015 وقد نزح من هذه الجهات جانبٌ ضخم من السكّان توزّع بين داخل البلاد وخارجها. ثالثة القوى «الدولة الإسلامية» المعروفة بـ»داعش» و80٪ من عناصرها ليسوا سوريين بل تقاطروا إلى سوريّا من أنحاء مختلفة من العالم. وهي ذات برنامج محوره إحياء الخلافة فيفيض كثيراً عن معارضة النظام الأسدي ويتّسم بوحشية وسائله. وهي قد غدت اليوم في موقع الدفاع بعدما تضافرت لضربها أسلحة طيران التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وقد انضمّ إليها سلاح الجوّ الروسي في خريف السنة الماضية.
القوة الرابعة هي القوة المسلّحة الكردية وهي توالي حزب العمّال الكردستاني بزعامة أوجلان. ولا تعدّ هذه القوّة معارضة للنظام الأسدي ولا تعترف المعارضة السياسية بانتسابها إليها بل تعوّل على «المجلس الوطني الكردي» لتمثيل الأكراد. وأما القوة المسلّحة فتقصر همّها على السيطرة على المناطق الكردية وتحقيق الاستقلال الذاتي. غير أنها اضطلعت بدور بارز في مواجهة التوسع الداعشي وقاتلت مع فصائل من الجيش الحرّ لإخراج داعش من بلدة تلّ ابيض ومحيطها وأفادت من دعم التحالف الدولي لها بالقصف الجوّي وبالتسليح خلافاً للإرادة التركية.
من هذا التعداد لقوى الجبهات ينتقل العرض إلى تعريف للأطراف السياسية ولمواقعها في الصراع ومقاصدها منه. ويقتضي منّا الإلمام بهذا التعريف وقفةً أخرى مقبلة…
القدس العربي – أحمد بيضون