الفيديو الذي ظهرت فيه جامعيات لبنانيات يعبرن عن رفضهن احتمال مواعدة شبان سوريين لأسباب متعددة ذكرنها، بينها «الاختلاف الثقافي والحضاري»، أثار ردود فعل عكس معظمها استياء من «عنصريتهن» وسخرية من «فينيقيتهن». لكن الكثير من هذه الردود انطوى على ركاكة وسطحية وعنصرية مقابلة، وعجز عن محاولة فهم – وليس تأييد – هذا الرفض وأسبابه العميقة لدى شابات يفترض أنهن على تماس بـ «العالم المتحضر» المعادي للعنصرية والمليء بالنماذج والأمثلة عن الاختلاط العرقي والثقافي والديني وسواه.
ومع أن الجامعة التي تنتمي إليها الفتيات الظاهرات في الشريط أوضحت أن التسجيل جزء من مشروع دراسي يتناول موضوع العنصرية من زوايا مختلفة ويهدف إلى قياس مدى تأثير الشبكات الاجتماعية في الفئات الشابة، وأن هناك شريطاً ثانياً يتضمن إجابات «سليمة وإيجابية»، إلا أن الانتقادات التي سجلت على شبكات التواصل قبل هذا التوضيح، واستمرت بعده، كشفت عن هوة من «الجهل» تفصل بين اللبنانيين باختلاف انتماءاتهم الفكرية والاجتماعية والطائفية والطبقية، تماثل تلك التي تفصل بين اللبنانيين والسوريين، وكذلك بين السوريين أنفسهم.
لكن، لماذا ترفض فتيات لبنانيات في شكل قاطع مواعدة شاب لمجرد ذكر جنسيته، من دون السؤال عن أي تفاصيل أخرى قد تكون مهمة بالنسبة إليهن مثل مستوى تعليمه أو وضعه المادي؟
الجواب يكمن في «النموذج» الذي قدمه نظام حافظ الأسد، ثم ابنه «النجيب» بشار، عن «شبانـ» ـهما إلى اللبنانيين على مدى 45 عاماً من حكمهما، وتركِهما لديهم انطباعاً بأن «السوري» هو فقط ذلك الجندي أو الضابط في «قوات الردع» الذي دخل إلى لبنان وتصرف به كأنه ملكية شخصية، وتعاطى مع أهله كأنهم «أتباع» أو من درجة إنسانية «أقلّ»، أو ذلك المسؤول الذي نُصّب «حاكماً سامياً» مطلق الصلاحية لتنفيذ تعليمات سيده، والذي أباح لنفسه التعامل مع السياسيين اللبنانيين أياً كانت درجة ولائهم، بصفاقة ولهجة آمرة.
«السوري» في نظر غالبية اللبنانيين الساحقة هو العسكري الواقف عند الحاجز الأمني يفرض هيبته عليهم بالقهر، أو الذي يهاجم مناطقهم ويقصفها لتمردها على سلطة حاكم دمشق ومعارضتها سياساته، أو الذي يعتقل أفراد عائلتهم وأقرباءهم وجيرانهم ويسوقهم إلى التحقيق، ثم يختفون، من دون سبب. وهو أيضا قائد «جهاز الاستطلاع» الذي يهدد نواباً وسياسيين بالقتل والخطف والتفجير لاشتباهه بخروج مواقفهم عما يريد ويرغب، من دون أن يسائله أحد عما يفعل وكيف، أو عمّن منحه سلطة فعله. وهو المسؤول الأمني والاستخباراتي الذي يقف وراء مسلسل اغتيال قادتهم وسياسييهم وصحافييهم الذين اختاروا المطالبة باستعادة استقلال بلدهم.
«السوري» في نظر معظم اللبنانيين هو ذلك الحاكم الذي صادر سيادة لبنان، ولا يزال يحاول، وأناب نفسه عنه في المحافل العربية والدولية حتى محا صورته كبلد مستقل، وزج به في خصومات مع دول عربية طالما رعته وساعدته، ودفعه إلى التخلي عن دوره في صوغ التسويات العربية والنأي بالنفس قدر الإمكان عن الأحلاف والتكتلات.
ومع أن هذا «السوري» هو ذاته الذي عانى ويعاني منه السوريون أنفسهم، وعرب آخرون بينهم الفلسطينيون، طوال حكم عائلة الأسد، بعدما سامهم بالأساليب ذاتها كل أنواع العسف، وحكّم فيهم أجهزته الأمنية، وقتل بينهم كل من عارضه، وملأ سجونه بمئات الآلاف منهم، وهو نفسه الذي ثاروا عليه منذ 2011 ولا يزالون يقاتلونه بما يستطيعون، إلا أنه نجح على مدى عقود سيطرته على لبنان في زرع فكرة مشوهة لدى اللبنانيين عن سورية ومواطنيها. وهي فكرة تحتاج إلى سنوات مديدة لتزول، وتحتاج أولاً وأخيراً إلى نظام سوري مختلف يعمل على محوها.
الحياة – حسان حيدر