سوسن جميل حسن: العربي الجديد
كلما أوغلت الحرب السورية في العنف والوحشية، وكلما تقدمت في العمر، زاد استنزاف الموارد حد القحط الكامل. والموارد البشرية من أهم الموارد وأخطرها على مستقبل أي أمة أو حضارة، هذا فيما لو أبقت هذه الحرب على سورية بالحد الأدنى لمفهوم الوطن.
من يعيش في الداخل السوري، في أي منطقة، يرى ويشهد ويشعر بالواقع المرير الذي آلت إليه فئة الشباب من السكان الباقين تحت رحمة العيش في ظروف الحرب التي تعتبر الأخطر في التاريخ الحديث.
شبح السَّوْق إلى الخدمة العسكرية في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام يلاحق الشباب، ويشكل كابوسا يقضّ مضاجعهم، يحرمهم السكينة ويسلبهم القدرة، ليس على الأحلام فقط، بل القدرة على التفكير والتخطيط لمستقبٍل بات متخفيا وراء أفقٍ داكن تفوح منه رائحة البارود والموت.
منذ بداية الزلزال الذي يعصف بسورية، والشباب السوري يبحث عن سبل الهروب من مواجهة الموت، فقد كان العنوان صريحًا وحازمًا منذ البدايات: على من هو قادر على حمل السلاح أن يحمله تحت رايةٍ من الرايات التي تعدّدت فوق أرضنا، ومواجهة الموت في سبيل الوطن أو الله أو أية غاية أخرى تحمل ما تحمل من معاني القدسية القاتلة، قانعين بالشهادة التي يفصّلها كل طرف وفق أجنداته، ويقدمها بديلاً عن حياةٍ صارت، بحد ذاتها، معاناة وبلاء لا علاج لهما.
صار الشباب يلعبون مع القوانين والأنظمة لعبة القط والفأر، يحاولون استثمار المدد الزمنية التي توفرها بعض اللوائح الناظمة لأوضاع الطلاب، خصوصا الجامعيين، وفي مراحلالدراسات العليا، في انتظار تأمين طرقٍ للهروب من واقعهم المرير الأسود، فمنهم من كان يماطل في تخرّجه، ومنهم من يقدّم طلب تأجيل إداري، أو إذن سفر يدفع رسومه بالدولار. ومن يستنفد هذه الفرص، يتخفى أو يتطوع لصالح كتائب ملحقة بالجيش، ويلجأ إلى الوساطات أو دفع الرشاوى كي يلحقوه بوحداتٍ تعمل في أماكن أقل خطورةً واحتداما للمعارك، في حال سدت جميع السبل أمامه، لكن القائمين على الأمور، والحريصين على الوطن وحمايته من المؤامرة الكونية، باتوا يقظين أكثر، وعازمين على تعديل القوانين والأنظمة الضابطة لأوضاع الطلاب، بطريقة يضيقون الخناق ويقلصون الفرص أمامهم، فيصير الوصول إلى المصير حتميًا.
هذه حال الشباب السوري، من بقي منهم في الداخل، وقد سدّت أمامهم جميع سبل الهروب من الموت. يناورون الدوريات التي لم تعد وقفًا على حواجز التفتيش، بل صار كثير منها يدور في شوارع المدن والأحياء، يلتقطون الشبان المارّين، يقيدونهم ويزجونهم في السيارات الملحقة، ويأخذونهم إلى الواجب الوطني “الإجباري”، ليعود القسم الأكبر منهم على شكل توابيت تحمل الموت رمزيا في الغالب، توابيت مغلقة ممنوع على الأهل فتحها لإلقاء النظرة الأخيرة، النظرة التي يجب أن توفّر للشاشات كي يُهدوا موت فلذات أكبادهم إلى الوطن وقائده. ولا تكتفي الدوريات باصطياد الشبان من الشوارع، بل تنقضّ عليهم في لحظات حياة مسروقة من شبح الموت المتغلغل في الهواء، عندما يجتمعون في المقاهي، ومعظمهم يفترشون الأرصفة أمام المقاهي، لأنهم لا يمتلكون ثمن كأس من الشاي أو فنجان قهوة ليتابعوا بطولة أو دوري كرة قدم.
يقول إدواردو غاليانو: “كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام، وكثيرا ما يضارب السياسيون والديكتاتوريون بهذه الروابط”. ويقول: “لم يكن البروليتاريون بحاجة إلى إنهاك أجسادهم، لأن المصانع والورش كانت قد وجدت لتحقيق ذلك، ولكن وطن الرأسمالية الصناعية كان قد اكتشف أن كرة القدم، هوى الجماهير، توفر تسلية للفقراء وعزاء لهم، وتبعدهم عن الإضرابات، وعن الأفكار الخبيثة الأخرى”. طبعا ليست الرأسمالية الصناعية وحدها، بل صارت وسيلة كل الأنظمة الاستبدادية في إلهاء شعوبها، وإقصائها عن التفكير بمشكلاتها وواقعها، خصوصًا لما تتمتع به هذه الرياضة من شعبيةٍ لدى الشرائح الفقيرة، فهي على رأي إدواردو غاليانو: “مثل التانغو، نمت انطلاقا من الأحياء الهامشية، فهي رياضةٌ لا تتطلب نقودا، وتمكن ممارستها من دون أي شيء آخر سوى الرغبة في اللعب”.
ولأن كرة القدم، بحسب الباحث سعيد بنكراد، تحمل استراتيجية حربية، كما جاء في كتابه “مسالك المعنى”: ربما تكون مباراة من هذا النوع من اللحظات المميزة التي تتيح لنا التعبير عن مواقفنا الحقيقية تجاه مجموعةٍ من القضايا الخاصة بالـ “القوة” و”العنف” و”الضعف” و “”الحرب” و”السلم”. بل قد يصل الأمر إلى الكشف عن أحاسيس عدوانية متأصلة فينا، لم يفلح التهذيب الحضاري المتواصل في محوها والتخلص منها نهائيا. وانطلاقًا من هذا التحليل المفهومي، تمكن إضافة رمز آخر يندرج في سياق المعنى، السياق الذي يبقى مفتوحًا على التشكل والصياغة، من دون أن ينغلق على ذاته، طالما الشعوب تنتج ثقافتها وفق حركة التاريخ. لهذه الإضافة علاقة بالحروب من نمط الحرب السورية، فبعد لقاء كروي في الكلاسيكو الإسباني، لقاء يجعل الصمت مدويا وقت المباراة في الواقع، كما على صفحات التواصل الاجتماعي، لأن الجميع يكونون مسمّرين أمام الشاشات، كتب أحدهم على صفحة عامة: حدث في يوم الكلاسيكو أن شابًا “ريالّي” بلّغ عن أربعة من رفاقه “البرشلونيين” بأنهم متخلفون عن الالتحاق بالجيش، واستقدم الدورية “فشحططتهم”.
فإذا كان اللعب، بحسب سعيد بنكراد أيضًا، يعدّ تشكلا ثقافيا قبْليًا لحياة رجولة متوقعة. أي هو من حالات التعلم الثقافي، وبعبارة أخرى، هو ليس سوى واحدةٍ من الوسائل المتعدّدة التي يتعلم من خلالها الطفل، كيف ينتمي إلى محيط ثقافي، له خصوصية في التقطيع المفهومي، وتمثل الوقائع الخارجية واستيعابها من خلال حالات الترميز المتعدّدة. إذا كان اللعب كذلك، فكم ينتظر هذا الجيل السوري المتشظي الذي، بأبسط البديهيات، توكل إليه مهمة البناء والنهوض، فالشريحة الشبابية هي خزّان الإبداع والابتكار، كم ينتظرهم من حياة متوقعة مبنية على ثقافةٍ قبْليةٍ تولد من رحم واقع تخلقه الحرب التي دمرت منظومة القيم والمعارف، وأخطر دمارها كان في استهدافها الموارد البشرية، رصيد سورية للمستقبل.