سياسة عزل المناطق المنتفضة الخارجة عن نير المستعمر وبسطار الحاكم المستبد، أخذت بالتمدد والتطور شيئا فشيئا منذ الثلث الأخير من القرن الماضي، إذ غدا العالم يشهد مجموعة من الخواصر والجيوب التي تسيطر عليها مجموعات مناوئة للسلطة العامة في البلاد، والوضع الميداني والسياسي يشير لوجود معارضة مسلحة مقاومة للنظام السائد في تلك الدولة، فمن الأمثلة القريبة غزة، تلك المنطقة الخارجة عن موازين السياسة الأمريكية والإسرائيلية والأوربية أيضا، إذ نسمع المقولة المشهورة لوزير الحرب الإسرائيلي ليبرمان “أود أن أستيقظ يوما فأجد البحر ابتلع غزة” هذه المقولة أصبحت من المرويات والمسلمات اللفظية في إسرائيل، للإشارة إلى صعوبة التعامل مع غزة، لكونها جيبا خارجا عن منطق السياسة الدولية، وما يسوده من تجاذبات ومبايعات من تحت الطاولة، لأنها أصلا قلبت الطاولة على رأس من يظن أنه قادر على اقتسام الكعكة (الغزاوية).
هذه كلها مقدمة لسيرورة السياسة العالمية في تصنيع وإدارة الجيوب النشاز، تلك التي تحلق خارج سرب السياسة الدولية ظاهرا، وتبتلع كل مشروع لاتفاق أو مصالة بين طرفين متناقضين، وهذا ما يمكن أن نستشرفه في خلال السنوات الثلاث القادمة، فالتكتلات والتجاذبات الأخيرة التي يمكن أن نحدد لها تاريخا دقيقا، هو تاريخ تحول السياسة التركية من سياسة نصرة للشعب والفصائل العسكرية المعارضة، إلى سياسة اللعبة الدولية، لتدخل كلاعب قوي مؤثر في سياسة دولية تفضل التجاذبات الإقليمية والدولية على المصالح والمطالب التي نادى بها الشعب السوري، التي ظهرت فيها كالعفريت الخارج من قمقمه- ملجأ ومأمن الموطن السوري الفار من القصف، والقتل، والفقر، والتدمير…
الآن تركيا لم تعد في قائمة خيارات الشعب السوري، بل هي مجرد طرف سياسي دولي مشارك لاقتسام الكعكة التي اقتربت من النضج والتغليف والقسمة (الضيزى)، لكن ما لا يمكن التكهن حوله هو مستقبل المناطق المحررة في الشمال السوري، هل مآلها مشابه لما آلت إليه المناطق الثائرة (قديما) في المنطقة الوسطى وحمص، والغوطة ودرعا، مصالحة وانتهى الأمر، (كما كان كما صار) أم ستكون ملحمة عسكرية كبيرة طاحنة وطويلة يتم على أرضها تصفية الإسلام السياسي، والإسلام العقائدي والإسلام الجهادي، أي أرض تصفية المرجعية الدينية المتشددة أو التي تحمل بوادر التشدد/ متشتت المرجعيات، إذ اجتمع فيها كافة تلك المرجعيات من مختلف مناطق العالم العربي والعالمي، أما الاحتمال الثالث فهو أقرب للقراءة الاستشرافية ولمنهجية السياسة العالمية المتمثلة بإجرائية التمثيل البياني، أي تحويل الواقع المعيش إلى واقع رقمي افتراضي، بمعنى تحويل المناطق المحررة في الشمال السوري إلى خاصرة ومصدر قلق دائم؟ لكن السؤال هنا لا بد أن يكون مضاعفا:
– مصدر قلق لمن؟
– ما الكيفية التي يمكن توظيفها؟
ويمتنع السؤال الثالث: إلى متى؟
ولنبدأ بالبحث في هذه المحاور الثلاثة:
الكانتون الخارج عن السلطة والسياسات المفروضة في المنطقة، فكما هي غزة، مصدر قلق للشريك في القضية الفلسطينية (الدولة الفلسطينية المتمثلة بفتح عامة)، كما هي مصدر قلق للكيان الإسرائيلي العدو التاريخي المغتصب للأرض، المدمر للبنية التحتية، المتتبع للقيادات الحماسية..، ومقلقة أيضا لمصر(التي تمثلها تركيا في التجربة السورية)، فبعد أن كانت مصر الدولة المساندة، الملجأ الحصين لقيادات حماس من جهة والسوق السوداء والمنافذ الحتمية الوحيدة لتنفّس السياسة وتحركاتها في المنطقة، أصبحت نقمة وحاجزا منيعا سواء من خلال الجدار الحديدي الذي زرعته مصر على حدودها مع غزة، أو في القوانين والقرارات السياسية المتخذة من حماس صفة المخرب والمؤثر على الأمن القومي للدولة المصرية، أو حتى من خلال العمليات العسكرية في منطقة سيناء بحجة القضاء على الإرهاب، ولأول مرة تخترق مصر اتفاقية كامب ديفد، ويدخل الجيش المصري إلى المنطقة ليرابط لا دفاعا وقتالا لمتطرفين سينائيين، وإنما الهدف البعيد حماية الحدود من أخوة غزيين أشقاء عرب، أصحاب قضية.
ثم ننتقل إلى الكيفية فهي جاهزة وحاضرة خاصة أن هناك تجارب كثيرة تم تنفيذها، آخرها غزة وهي تجربة حاضرة أثبتت نجاحها.
أما إلى متى؟ فهي منحة تاريخية أقرب لتكون (مسمار جحا في كل وقت)شماعة تدعم وتبرر تدخل المنظمات الإنسانية بطانة السياسة العالمية- السياسة الناعمة المقنّعة، يمكن شدها وجذبها وإفلاتها، كيفما أُريد لها ذلك.
المناطق المحررة تجربة مضمونة قابلة للتنفيذ مع نسبة خطأ 0 % لأن تجارب كثيرة سبقتها من جهة، ولأن تمهيدا طويلا اشتركت فيه دول إقليمية ودولية لإنتاج هذا الشكل الجديد من خارطة الشرق الأوسط، الكانتونات الحارة، مصطلح أمريكي متداول منذ الخمسينات تم تطوير نماذجه في بداية 2011 وتم اختيار التطبيق العملي في الشمال السوري، ليكون خاصرة مقلقة لكل من الأطراف الآتية:
النظام السوري: كون المنطقة تشكل خزانا بشريا وفكريا للمعارضة بشقيها المسلح والمدني.
الدولة التركية: كون المنطقة جيبا لعمليات تركية للضغط على النظام السوري، والتمدد الشيعي في المنطقة.
الأقليات الأثنية والعرقية والدينية: كون المنطقة متهمة بأنها مسؤولة على عمليات تهجير قسري لتلك الأقليات، التي تخالفها دينيا أو عقائديا.
الأطماع السياسية الكبرى: كون المنطقة تمثل مقبرة مأجورة:
– مقبرة لمخازن السلاح الروسي والإيراني الفاسد التي يتم بيعه للنظام بأثمان مضاعفة.
– مقبرة للخزان الفكري والسياسي السني، المتهم بالتطرف والإرهاب.
– مقبرة للمشاريع الإنسانية والإغاثية غير المُقنِعة التي ما تلبث أن تطل برأسها حتى تختفي بقدرة قادر.
– مقبرة لجنود النظام الذي فشلت كل حملاته حتى اليوم أن تكسر قدرة هذه المنطقة عن التصدي لمخططاته.
– وأخيرا مقبرة لأبناء المناطق السورية المختلفة الذين رفضوا العيش في ظل النظام أو كان لديهم نزعة ما استطاع النظام استخراجها من رحم الغيب، وزجّ بهم في تلك المناطق المحررة.
مجلة الحدث السوري – علاء العبدالله