سليم بركات
نحن الكرد السوريين لا نريد أصناماً على مداخل الشمال السوري ومخارجه. تماثيل العائلة الحاكمة الدموية تستجمع ظلالَ حجارتها هاربةً وهي تضع إزميلَ النحت في أيدي عشيرة أوجلان ـ فرع البعث الجديد بلقبٍ كردي ـ كي تنحت لأوجلان تمثالاً من خُدعة الأسد.
لا نريد الخروج من عبودية أصنام البعث إلى عبادة أصنام الحزب الجاثمة بمخيلتها الركيكة في لقب ‘العمِّ’ هوشي منه، وماو، وقبعة ستالين. حزبٌ آمن بإلغاء كل مُخالف لضحالة منطقه السياسي، أفراداً أو تجمعات، يستلم، الآن، سلاحَ الأسد، ـ كفعلِ الأسد وحلفه الإيراني، بالسلاح حكراً في لبنان على مستبِدٍّ بالدولة قراراً، ـ وخططَ الأسد، لنقل كرد سوريا من عبودية عانوها والشركاءَ إلى جحيم المجابهة مع شركاء الكرد أنفسهم، وجحيم التمزيق بمخاوف الجار التركي؛ بل أخذهم إلى نكبةٍ أينَ منها نكبةُ البرامكة.
تلك مفارقات لا تعني فرع بعث أوجلان الكردستاني؛ بل لا يفهمها مُذْ كان بعينٍ في الولاء على صنم الأب، وعين على صفر السياسة؛ بل بعماء مقصود في الفهم عن مقاربة البسيط المَشُوْف من مطابقة العسف التركي بالعسف البعثي شقيقين ضاريين على سويَّةٍ في مذهب الحَجْب، كأنما مستنسخانِ مقاصدَ عن مقاصدَ عرقية، ولغوية تتوافق مخارجَ بحرفٍ لاتيني على صورة أبيه العربي، قبل انقلاب ‘مدنيَّة’ أتاتورك، بهندسةٍ من إيمان الغرب، على وافد الجنوب الديني رسوماً رَقْناً للغة طوران. العسفُ العرقي، والعصبيةُ لسيادة الكثرة محيطاً، ألقيا بكُرد تركيا نقوداً متداوَلةً في سوق الجحيم.
والعسف العرقي، والعصبية لسيادة الكثرة محيطاً (والقِلَّةِ المِلَّةِ حُكْماً) جرَّد الكردَ ـ منذ اختطاف الدولة السورية بانقلاب على إيمان الخيار الحر، وكفاءة التقدير عند السوري للصواب والخطأ، والأخلاق واللاأخلاق ـ من مواطنية ‘الحدِّ الأدنى’، مقهوراً في لغته، وزيِّهِ، وأسماء أولاده، وأسماء أمكنته. فكيف استوى لفرع بعث أوجلان الكردستاني أن يجيز لعائلة الأسد الدموية، في سوريا، ما لا يجيزه لعائلة أتاتورك؟ كيف استقام لخيال أبِ الفرع الصنم، في المطابقات الواضحة للبسيط على حافر البسيط، وصفَ الإنكار الطوراني عليه حرية اعتقاده بالدَّنس، ووصف الإنكار البعثي على كُرد سوريا حريةَ اعتقادهم بالموصوف الطاهر؟.
مهزلة فرع بعث أوجلان الكردستاني أنهُ أقل من بيدق في لعبة الصنم البعثي على شطرنجه مع تركيا، مذ رأى هذا الفرع، المستحدَث اليوم من فراغ الأمر الواقع ومن نكاية الأسد بالتمرد عليه، انذعارَ الأسد حين هُدِّدَ، حقًّا، فأرسل أباه ‘آبو’ مطروداً حتى عثر عليه الترك فاستعادوه متوسِّلاً بأمِّه التركية قُربى ‘الرأفة’ والشفاعة منهم.
وهاذا الصنم البعثي يعيد إطلاق الكردستانيِّ فرعاً بعثياً في الحقل السوريِّ شمالاً، بخدعة في الخططِ على ابتذالٍ لن يسوِّغه أحدٌ إلاَّ عشيرة الكردستاني، مذ لم تستحصل هذه العشيرة ـ باستئثارها إدارةَ ‘المعركة الكردية’ خالصةً على الجبهة التركية، في تهشيم لا يُغْتَفَر لأيِّ تخطيط كرديٍّ آخر، فكراً أو منهجاً، بالتهديد والوعيد، والإلغاء ـ إلاَّ منازعاتٍ ممدودةَ المخارج، كاستماتتها في جرِّ ملة إقليم كردستان إلى أتونٍ تركيٍّ، فغالبها الكردُ على مصالحهم هناك حتى الدم.
لقد سوَّغت عشيرة بعث الكردستاني لنفسها، على مجاز الأب الصنم أوجلان معبوداً واجبَ الإشاعة، حيثما انتشر كردٌ أو وُجِدوا من الأرض، وعلى فُتيا الأب الصنم جوازَ امتلاك الأمكنة خالصةً لمنازلاتِ اعتقاده، سيداً كأسياد القرون الوسطى جُوِّزَ لهم أن يكونوا آباءَ عُذْرةِ كلِّ عذراء ليلةَ زفافها إلى عريس. صَدَمت عشيرة البعث الكردستاني كُردَ إقليم كردستان. ناجزتْهم. قتلتْ خَلْقاً، وأتلفتْ أمكنةً، واستدعت، بداعي الوقوف في قرى الرعاة المستباحة، تنانينَ أتاتورك ـ طائراته، ومنجنيقات ناره.
كل هذا في خُططٍ خبْطٍ من عقلٍ مستوهِمٍ ‘جبروتَ’ الصَّنم الكردستاني: على كل كردي أن يقدم للسيِّد عُذْرةَ أمكنته. لكنَّ مثول عشيرة بعث الكردستاني، حاملةً على كتفيها خُدعَة الأسد الدموية كاملةً، مُتقَنَةَ الدَّنس، قذرةً بلا حدود، في الشمال السوري، لا تشبهها دمويةُ الخطط الركيكة، قَبْلاً، لا وسط أكراد تركيا، ولافي جرائر العشيرة على أرض كردستان شمال العراق: إنَّ ما تفعله هو انضمامٌ، في شكله المدمِّر، إلى فِرَق الموتِ القادمة إلى أرض سوريا، من رفاقِ قَتَلَةٍ في السلاح ـ حزب الله، إلى لقطاء راسبوتين الروس، إلى المُبشِّر الإيراني بكربلائيةٍ نظاماً للوجود وفِقْهاً لشرائع الحياة.
لقد هالنا، بعد كلام مريح للرئيس المصري عن ‘سقوط الأسد’، انزلاقُه، بسذاجة في منطق السياسة مُحْكَمَةِ الغرابة، إلى خُططٍ خلْطٍ بدعوته إلى إشراك الإيراني في إدارة ‘عرس الحياة’، كأَنْ هو، عن سَهْوٍ لا يُحْمد، يدعو الأسد نفْسَه إلى الإسراف في توسيع المسلخ.
أَوَلا يجعل هذا المنطقُ الخلطُ، طليقاً في التعميم، مُباحاً أن يُدْعى فرع بعث الكردستاني، أيضاً، إلى شراكة في توسيع المسلخ، مادام ‘مؤثراً’، باقتباسِ لفظِ الرئيس في دور إيران الدموي؟ هل ستُدعى ‘فصائل’ الجحيم القادمة (إن طالَ الأمدُ بمُدَدِ الذبح مبذولةً من أمم الأرض المنافقة) ـ جهاديين، وقاعديين، وإلهيين، ومالكيين، وصدريين، ونصريين، وقوميين سوريين خُذلوا في نشر معتقدهم هَفْتًا بالتقادم، فانحسرت همَّتُهم إلى همة شبِّيحةٍ مُقنَّعيْنَ ـ إلى شراكةٍ في توسيع المسلخ، ما داموا ‘مؤثِّرين’، كلٌ بقدْرِ نهْبِهِ الحياةَ من خزائن السوريين؟ تمنَّينا على رئيسٍ من صناعة التمرُّد على إرث المسالخ الحاكمة أن يستحضر ثقلاً عربيًّا ‘يؤدِّب’ به هذا الإسراف الكوني في جلوس الأمم متفرِّجةً على مدرج الحلبة الدموية.
لقد فهمنا رسائل الاستنكار الأجوف، واجتماعات الأقاليم الجوفاء، ناصعةً من فيض شقائها: طالما لم يستطع التخمين الأمريكي، برفدٍ من مشيئة إسرائيل في التخمين، استشرافَ هوية القوى القادمة إلى قيادة سوريا الجديدة، بعد إيمان من الأمريكي أوباما (الرئيس الأكثر كذباً في تاريخ أمريكا بوعوده السخيَّة لحل معضلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والأكثر جبناً في تاريخ أمريكا بجلوسه متفرِّجاً على شعب يُذبح خوفَ خسارة ناخبين)، والإسرائيلي حكومةً وشعباً، أن لا عودة للأسد سيداً إلى عرينٍ من تبنٍ حتى؛ بعد ذلك الإيمان، جرت بالجميع، وبضمنهم لقطاء راسبوتين، حميَّةُ القبول بسوريا ‘في الحد الأدنى’ دولةً؛ أن تخرج من نكبتها لا ـ دولةً.
ذلك سيُريح الأمريكي، والإسرائيلي، من غلواء الشكِّ في مستقبل سوريا بلا حارس لحدود العبرانيين، وسيُرضي غرورَ باعةِ الأسلحة ـ لقطاءِ راسبوتين أنهم انتصروا على غرب العالم (غربٌ لم يَقُدْ معركةَ سوريا أصلاً)، أخيراً، بأهرام من أجساد السوريين. أما الإيراني فيكفيه الآن غروراً أنه يُدعى، من رئيس الدولة الأكبر عربياً، إلى شراكة في ترقيع الموت.
لقد ادَّخر الأسد أوراقه الأكثر خراباً للمأزق: طائراته الثابتة الأجنحة في معلوم التوصيف سلاحاً، وربما يستعين بكيمياءاته لاحقاً. وهاهو لا يدَّخر طلقته الأخيرة على كرد سوريا ـ عشائرَ بعث الكردستاني، بسلاح الأسد في أيديها تسلُّطاً، وخططِ الأسد في أيديها للزجِّ بهم في جهنم الصراع مع الشركاء السوريين. تلك هي آلة البعث ذاتها التي صُوِّبَتْ إلى رأس الكردي تجرِّده من لغته، وزيه، وأسماء أمكنته، تُسلَّم إلى عشائر الكردستاني.
فما لم ينجزه صنمُ الحاكم الدموي أُوْكِلَ الكردستانيُّ بإنجازه تماماً، زجًّا بأكراد سوريا إلى منازلات شيطانية ضد السوريين، وذهاباً بكُرد سوريا إلى مسلخ الصنم التركي مصطفى كمال. لم يستوفِ حاكمُ سوريا سلخ الأمكنة عن جسد الكردي، والشغفَ بعظامه لهواً. أمْ يستوفي الصنمُ الحاكمُ مقتلةَ الكردي بيد الكردي، مُذْ يعرفُ الصورَ في المرايا ناطقةً برسوم الشبيه ـ الصنمِ الكرديِّ شبيهِهِ في كراهية الخروج على فكره، وكراهية المُختلفِ؛ وشبيهه في هوى استئثاره بالسلطان حتى آخر كلمة في مَعجَم الجثث؟ سيطحن الكردُ الكردَ في الشمال السوري، بسيطرة عشيرة البعث الكردستاني، المُنْجَز العدَّة من مخازن سلاح الأسد، كالدَّوْر ذاته مرسوماً للفِرَق بغلبة العدَّة، على نسق من مُشاكلِهِ اللبنانيِّ آثرته إيران، وحاكم سوريا، ‘مقاومةً’ حزباً أين من مفاخره اللهُ مُذْ يقول عن يقين نفْسه إنه رفيق القتلة في سلاح القتل؟
لربما بدأت عشائر البعث الكردستاني بصناعة الزرائب لِكُرد الشمال السوري، وتخزين علف البعث المُهْمَل لمذاود الأسرى الجددِ ـ أسرى السلاح، استعداداً لطلب جديد من حكام تركيا: نَحْتِ صنم آخر من دم، في الأرض المشوفة بلا وقاءٍ، مثلها كمِثْل معارضةٍ من مبتكراتِ الخدعة الروسية في حذاء الأسد، بدعوى درْءِ ‘التدخل الخارجي’، الذي لم نرَ منه إلاَّ أسلحة الروس، وخزائنَ مال إيران ولحمَ حرسها المستحوذ حصريةَ ‘فنِّ الخراب’ حيث أمكَنَ خرابٌ.
مدَّخراتٌ خدائعُ بين عبث ‘معارضٍ’ أتحفنا بطروحات تصريف الأسد لسياسة الأخاديع، وبين الدفع بالجنون ذبْحاً تفجيراً في العراق، وترويعاً دكًّا في سوريا، استقرَّتْ، في بعضها المذهل فصولاً، على تأسيس كارثة للأكراد من ‘رفاهة البؤس’ تستصلح بها عشائر الكردستاني، في ظل سلاح ابن الأسد ‘الخالد’، اقتصادَ المستقبل الكردي السوري بقروضٍ من شهوة الكارثة، إنجازاً لمملكة أوجلان على مقاس زنزانته.
على عشائر بعث الكردستاني أن تفهم اليوم، قبل تدرُّج النكبة نضوجاً، أن أكراد سوريا موكلون بحقوقهم من داخل البيت السوري ـ بيتهم؛ من داخل ثورة سوريا ـ ثورتهم.
قد لا تفهم هذه العشائر، بتصحيف في الترجمة من عربية الأسد إلى كردية أوجلان، مثلها كالترجمة الوضيعة من دولة على مقاس الدُّول هي إيران تصحيفاً في خطاب الرئيس المصري، جالساً عند مضيفه ‘الثقة’ خامنائي، أنها تجرُّ كردَ شمال سوريا إلى مساومةٍ وضيعة.
قد لا يفهم فرع البعث الكردستاني الجديد ـ المشمول بلقب ‘العمال’ المفقودين من طبقة عشيرته الزُّرَّاع، وأهل الحرْث، المغلوبين على أمر يقينهم بين عسف النظام التركي، و’التمثيل’ المُجحَف لهم حُكْراً قَسْراً على أوجلان ـ أن ثورة الكردي، في سوريا، هي من أجل الجولان، ودرعا، واللاذقية، وعامودا، وسَريْ كانيي، لا من أجل إنعاش خيال الإخفاق عند فرع البعث الكردستاني، الألمعيِّ في السعي إلى دحرجة روح الكردي، بتمام أملها، إلى عبقرية الكارثة.
لم يعرف فرع بعث الكردستاني أن الكرد لا يريدون صنماً جديداً من مقاسات أصنام عائلة الأسد، على مدخل حياتهم. لم تفهم عشائر الكردستاني أن كُرد سوريا لن يمكِّنوها من اتخاذهم درعاً في سذاجة اللعب بالمصائر، كي تفاوض التركيَّ على ‘رأفةٍ’ بصنمها. هي لم تفهم، في الأرجح، أنَّ كل فراغٍ من سلطة الأسد، في ديار الكرد السوريين، لن يملأه إلاَّ السوريون بجيشهم الحرِّ ـ ممثِلهم سيِّداً على الديار والأمكنة في إدارة أمن الناس أحراراً في مُعْتَقد خيالهم، ومُعْتَقد إيمانهم بالحياة، ومُعتَقَد أعراقهم. أم تظنُّ عشائر البعث الكردستاني أنها إنْ غدت ‘مؤثرةً’ دمويًّا ـ بإصغاءٍ إلى مُقْتَرَح الرئيس المصري الغامض إشراكَ المؤثِّرين، في الشأن السوري، كإيران الحَصافةِ في ‘ فنِّ الخراب’ـ غدَتْ جزءاً من ‘الحلِّ’؟ لا. كلُّ مؤثرٍ دمويٍّ جزءٌ من وجوبِ الرحيل حلاًّ.
العربية نت